إهداءٌ أول إلى “سماحة العلّامة ومرجع الطائفة العلوية الشيخ غزال فضل غزال”، ثم تبدأ الموسيقى.
يعلو صوت شابٍ بأغنية تحمل مناخاً تعبويّاً واضحاً، تتداخل معها صورٌ للشيخ وهو يمسك عباءته ويسير على طريقٍ ترابي، فيما تنساب الكلمات على الشاشة:
“يا حفيد الأكرمين، يا ابن الأطهار… يا نور الأنوار، نحن خلفك، نحن بصفّك…
أنت العالِم والعلاّمة وحاملُ ذو الفقار…
أنت الفارسُ في وجه الأخطار، يا بَيّ الأحرار”…
هذه الأغنية، التي تحوّلت في الأشهر الأخيرة إلى نغمة رنين في هواتف عددٍ كبير من شباب الساحل السوري، باتت تُسمع أيضاً في البيوت التي خرج منها غزال غزال.
فقد أصبح الرجل ـ من دون إعلانٍ أو مسارٍ إعلامي مباشر ـ صورةً ورمزاً في وجدانٍ محلّي يبحث عن مرجعية وسط الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة خلال العقد الأخير.
إرث ديني
تنتمي عائلة غزال إلى واحدة من أكثر العائلات رسوخاً في التاريخ الديني للطائفة العلوية في ريف اللاذقية الشرقي. وفي تلك القرى التي تتداخل فيها روابط القرابة بالأدوار الدينية، بدأ اسم الشيخ غزال غزال يخرج تدريجياً إلى العلن خلال العقود الماضية، بوصفه واحداً من خطباء الجبال الذين تُفتح لهم بوابات التأثير الهادئ داخل المجتمع.
الشيخ غزال، المولود عام 1962 في قرية تلا التابعة للحفّة، لم يكن بعيداً عن إرث عائلته. فهو ابن الشيخ وهيب غزال، العلّامة المعروف، الذي شكّل الحاضنة الدينية الأولى له. وفي بيتٍ يتقاطع فيه الدين بالتعليم، حفظ غزال نصوص التراث الديني منذ طفولته، وتشرّب أساليب الخطابة ومخاطبة الناس عن والده، قبل أن يوسّع ذلك الإرث لاحقاً خارج حدود القرية والمسجد.
تلقى غزال تعليمه في مدارس اللاذقية، ثم توجه إلى دمشق ليلتحق بكلية الشريعة. وبعدها انتقل إلى لندن ونال شهادة في الشريعة من “الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية”. ومع عودته إلى سوريا، عمل إماماً وخطيباً ضمن مديرية أوقاف اللاذقية، وتولى التدريس في مدارس دينية. وقد تبدو هذه المسارات “اعتيادية” في سيرة أي رجل دين، لكنها في سوريا تحمل معنىً إضافياً: الاندماج داخل المؤسسة الدينية الرسمية التي شكّلت تاريخياً أحد أذرع الدولة، في زمن حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد.
لم يظهر الرجل سياسياً بشكلٍ مباشر، لكنه تحرك في أكثر المساحات حساسية: الدين، والمجتمع، وتلك الطبقة الرقيقة التي تفصل الطائفة العلوية عن الدولة الأمنية التي رعتها. لذلك نظر إليه كثيرون بوصفه “رجل دين من داخل البنية”، لا من خارجها؛ جزءاً من شبكة غير مكتوبة تنظّم العلاقة بين السلطة والطائفة.
علاقة ملتبسة
لا توجد وثائق تشير إلى أنّ غزال غزال لعب دوراً سياسياً مباشراً داخل النظام. لم يتولَّ مناصب في حزب البعث، ولم يظهر في المناسبات الرسمية الرفيعة، ولم يَرِد اسمه ضمن لائحة رجال الدين الذين قدّموا دعماً صريحاً للنظام بعد عام 2011.
ومع ذلك، فإن وجوده داخل موقع ديني رسمي في منطقة تُعدّ القلب الاجتماعي للطائفة العلوية، كان كفيلاً بإلباسه صفة “القريب من السلطة” أو “الرجل الذي يعمل في ظلّها”.
هناك عناصر عديدة عزّزت هذا الانطباع:
موقعه الرسمي: عمله كمفتٍ لمنطقة اللاذقية أو ضمن مديرية الأوقاف يعني أنّ الدولة اعتمدته في موقع ديني ـ إداري، أي أنّه يتحرك داخل الإطار المؤسسي الذي شكّل إحدى أدوات النظام لضبط المجتمع.
البيئة العلوية المغلقة: في الساحل، وضمن الطائفة التي أحكم النظام سيطرته عليها لسنوات طويلة، يُنظر عادةً إلى رجال الدين الرسميين باعتبارهم جزءاً من “البنية التي تخدم السلطة”، بحكم أن الدولة اعتمدت هذا النوع من المرجعيات لتدجين المجال الديني.
القراءة السياسية ما بعد 2024: عقب الانهيارات التي أصابت السلطة في الساحل، عاد بعض الخصوم الإعلاميين للربط بين اسم الشيخ غزال ومؤسسات النظام السابقة. كان هذا الربط، في كثير من الأحيان، مجرد انطباع أو نتيجة الانتماء إلى مؤسسة دينية رسمية في زمن الأسد، أكثر منه علاقة سياسية مباشرة.وهكذا، حتى لو لم يكن الرجل مقرّباً سياسياً من الأسد بالمعنى التقليدي ــ لا عضوية حزبية، ولا موقعاً أمنياً ــ فإن تموضعه داخل هياكل دينية رسمية في منطقة علوية مركزية يكفي لخلق هذا الانطباع. وكلما اهتزّت منظومة النظام وتراجعت، أصبح هذا النوع من الانطباعات أكثر حضوراً.
ومع ذلك، فإن أحاديث أبناء المنطقة ترسم صورة مغايرة: غزال غزال كان بالنسبة لهم شيخاً تقليدياً ظلّ بعيداً عن الاستعراض السياسي. لم يتصدّر المشهد، ولم يقفز إلى المنصّات، ولم يُتاجر بخطابات الولاء. لكنه لم يكن غائباً عن مراقبة ما يجري، خصوصاً خلال السنوات الأولى من الحرب السورية، حين تلقّى المجتمع العلوي أقسى ضرباته: القتل المتراكم، التجنيد القسري، غياب آلاف الشبان، والانهيار النفسي والاجتماعي الذي أصاب الساحل.
ورغم كلّ ذلك، بقي غزال خارج دائرة الضوء. لم ينخرط في لجان المصالحات، ولم يقترب من المعارضة، ولم يحاول لعب دور الوسيط. ظلّ خطابه محصوراً داخل الدائرة الدينية المحلية، وكأنه كان ينتظر لحظة أخرى ــ لحظة أكثر وضوحاً ــ ليقول ما لديه بالفعل.
ظهور الصوت
جاءت تلك اللحظة بعد سقوط بشار الأسد، حين ارتُكبت “مجازر” في الساحل السوري وشُكّلت لجان تحقيق خرجت نتائجها إلى العلن. في هذا المناخ المضطرب، خرج اسم الشيخ غزال غزال من هامش الخطب المحلية وقاعات التدريس، وبدأ يظهر في مقاطع مصوّرة وبيانات مكتوبة تدعو إلى حماية المدنيين العلويين، ووقف العنف، ومحاسبة المتورطين في الخطف والقتل.
كان الانتقال لافتاً، إذ تحوّل خطاب الرجل من لغة وعظية تقليدية إلى لغة سياسية مباشرة، تصوغ نفسها بوضوح حول “العلويين المدنيين” الذين وجدوا أنفسهم فجأة في قلب موجة عنف.
بهذه النقلة، خرج غزال من موقع “الشيخ المحلي” ليصبح وجهاً علوياً صاعداً في مرحلة فقدت فيها الطائفة مرجعياتها القديمة، ولم تُنتج بعدُ البدائل الجديدة.
في خضمّ تلك اللحظة، قاد غزال تأسيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر، الذي يضم نحو مئة شيخ من مختلف المحافظات. وبهذه الخطوة، أعلن نفسه ـ ومعه مجموعة من رجال الدين ـ كمرجعية دينية ــ اجتماعية للطائفة في مرحلة فراغ قيادي كامل.
أصدر المجلس بيانات علنية طالبت بـ”حماية دولية للعلويين، لجنة تحقيق مستقلة في الانتهاكات، فدرالية أو لامركزية كضمانة للأقليات، اعتصامات سلمية ورفض الانتخابات الجديدة لغياب تمثيل عادل”.
ووصف غزال الواقع في الساحل بأنه “ساحة لتصفية حسابات طائفية”، مؤكداً أن العلويين يتعرضون لـ “قتل، اختطاف وتمييز”، وداعياً إلى وقف العنف فوراً.
بهذا الخطاب، تموضع غزال في موقع معارض للنظام الفعلي الجديد، ولو على نحو غير مباشر. وكان هذا تحوّلاً غير مسبوق لرجل دين لم يُعرف عنه أي دور سياسي خلال عقود.
وبقدر ما لامس خطابه مخاوف فئة واسعة من أبناء الطائفة الذين شعروا بأن أحداً يعبّر أخيراً عن “خوفهم الوجودي”، أثار أيضاً انتقادات حادة من أطراف رأت في خطابه محاولةً لإعادة إنتاج الطائفية بصيغة دينية مهذّبة.
خطاب مضادّ
على الجانب الآخر، برزت حملة معاكسة تتهم الشيخ غزال بأنه “رجل دين وظّفته الدولة لعقود”، وأن خطابه الجديد ليس سوى محاولة لإعادة تلميع دورٍ قديم في خدمة السلطة. معظم هذه الاتهامات صدرت عن قوى سياسية وعسكرية جديدة في الساحل؛ قوى صاعدة رأت في أي مرجعية دينية مستقلة تهديداً مباشراً لنفوذها.
وذهب بعض المنتقدين أبعد من ذلك، متّهِمين إيّاه بأنه يؤسس لـ”علوية سياسية” جديدة تستثمر الخوف وتستخدم اللغة الدينية لحماية مصالح مجموعات محددة داخل الطائفة. غير أن أغلب هذه الادعاءات لم يُدعَم بوثائق أو قرائن واضحة، وظلّ يتحرك في إطار الصراع على التمثيل داخل مجتمعٍ علوي مشرذم أكثر من أي وقتٍ مضى.
حتى اليوم، يبقى من الصعب تحديد حجم الحاضنة الشعبية لغزال غزال. فالمجلس الذي أسّسه لا يمتلك آليات انتخابية، وتعتمد شرعيته على شبكة من المشايخ والعائلات، لا على تمثيل مؤسساتي واضح.
ومع ذلك، فإنّ ظهوره الإعلامي في لحظة الانهيار، وصعوده كصوتٍ يحاول حماية المجتمع من الداخل، جعلاه لاعباً يصعب تجاهله. في المقابل، يرى آخرون أن صعوده مرتبط بلحظة فراغ سياسي وأمني، وأنه قد يتراجع مع استقرار المشهد أو مع بروز قوى تمثيلية أكثر تنظيماً.
بين الرسمية والبديل
لم يكن المجلس الإسلامي العلوي الجديد الذي أسّسه الشيخ غزال غزال امتداداً للمجلس الذي ظهر في عهد حافظ الأسد. فالمجلس الأول كان هيئة دينية رسمية مرتبطة بوزارة الأوقاف، تعمل تحت مظلة الدولة، وتضمّ مشايخ يُنظر إليهم تقليدياً على أنهم أقرب إلى القيادة السياسية منهم إلى المجتمع.
كان دور المجلس القديم واضحاً: دعم الدولة، تثبيت سرديتها وإدارة الشأن الديني ضمن الحدود التي ترسمها السلطة. لكن مع انهيار النظام بعد عام 2024، وتفكك البُنى التي كانت تنظّم الحياة الدينية والسياسية للطائفة العلوية، برزت الحاجة إلى مرجعية مختلفة تماماً.
في هذا السياق ظهر المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر بقيادة الشيخ غزال، مع إضافة كلمة “الأعلى” للتمييز عن هيئة النظام القديمة وخلق هوية جديدة. جاء المجلس الجديد بصفته جهة مستقلة، معارضة للسردية التقليدية، ومنفصلة عن مؤسسات الدولة السابقة، في محاولة لبناء مرجعية دينية علوية خارج قبضة السلطة.
وُلد هذا المجلس كردّ فعل مباشر على الأزمة السورية، وعلى شعورٍ واسع لدى أبناء الطائفة بأنهم كانوا مُستَخدَمين ضمن آلة السلطة حيناً، ومهمّشين حيناً آخر.
وبذلك بدا المجلس الجديد أشبه بهيئة دينية موازية ظهرت لملء الفراغ القيادي الذي نتج عن سقوط البنية الرسمية، أو حتى لتحدّي المشيخة التقليدية التي بقيت مرتبطة بالدولة لعقود طويلة.
بهذه الصيغة، بدا مجلس الشيخ غزال أول محاولة لصناعة مرجعية علوية مستقلة منذ عقود ــ مرجعية تتحدث باسم الطائفة لا باسم السلطة، وتطرح خطاباً دينياً وسياسياً جديداً يتجاوز موقع “الشيخ الرسمي” نحو موقع “المرجعية التي تدّعي تمثيل الخوف والمصير”.
مواقف سياسي
ظهرت مواقف غزال غزال السياسية في مرحلتين حاسمتين من تطوّر الأزمة السورية، حيث خرج خطابه من الإطار الوعظي التقليدي إلى مساحة سياسية ــ اجتماعية أكثر وضوحاً.
المرحلة الأولى: التحذير المبكر
في السنوات الأولى للأزمة، حين بدأت تتشكّل خطوط الانقسام الطائفي، برزت أصوات علوية تدعو إلى الإصلاح وتحذّر من انزلاق الطائفة إلى الصدام. وفي هذا السياق ظهر بيان “العقل العلوي” الذي حمل لغة نقدية غير مسبوقة، وتقاطعت مع مواقف الشيخ غزال الذي دعا آنذاك إلى التفكير في مستقبل سوريا كدولة مواطنة، تجنّب التورط في الصراع الطائفي والحذر من الاصطفاف الكامل خلف السلطة.
لم يكن الشيخ غزال في تلك المرحلة معارضاً مباشراً، لكنه كان يدقّ ناقوس الخطر: الصراع الطائفي سيأكل المجتمع العلوي قبل غيره.
المرحلة الثانية: المطالبة بالضمانات
ومع تصاعد المخاوف على مصير الأقليات، خصوصاً بعد تجاوز الحرب مراحلها الأولى، أخذ خطاب الشيخ غزال منحىً أكثر صراحة. تحوّلت رسالته من “التحذير” إلى المطالبة بضمانات سياسية ودستورية، ورأى أن النظام اللامركزي الطريق الأكثر واقعية لحماية الطائفة ومناطقها، الضمانات الدستورية ضرورة وليست ترفاً، حقوق الطائفة يجب أن تُصان دون أن تُستخدم كأداة للتحريض أو الصراع.
هذا التحوّل جعل خطابه قريباً من مشاريع سياسية جديدة تحاول تأطير الهوية العلوية داخل سياقٍ وطني تعددي وعلماني، بعيداً عن الاستخدام الأمني الذي هيمن لعقود.
من شيخ محلي إلى حامل مشروع
بهذا المعنى، تمثّل مواقف الشيخ غزال ــ ومعه إرث والده الشيخ وهيب غزال ــ كسراً للنمط التقليدي الذي ارتبط برجال الدين في الساحل. فالرجل لم يكتفِ بدور الواعظ المحلي، ولا بدور الموظف في مؤسسة رسمية، بل دفع بخطابٍ يستبطن مشروعاً سياسياً جديداً يقوم على: هوية علوية غير طائفية، دولة لامركزية، حقوق مدنية واضحة وتحرير المجال الديني من قبضة السلطة.
هذه المقاربة أثارت حساسية داخل الطائفة، لكنها في الوقت نفسه لامست مخاوف شريحة واسعة تشعر بأن “العلويين بلا ضمانات” في مشهد سوري يعاد تشكيله.
حركة في منطقة رمادية
اليوم، يتحرّك غزال غزال في منطقة رمادية تجمع بين الديني والسياسي والاجتماعي. ويستفيد من مجموعة عوامل متشابكة: انهيار المؤسسات القديمة، غياب بدائل قيادية واضحة، حاجات مجتمعٍ خائف يبحث عن صوتٍ يمثّله ورمزية موقعه الديني في لحظة فراغ تاريخي. هكذا يقدّم نفسه ممثلاً لشريحة واسعة تشعر بأنها مهمّشة ومهددة، وفي الوقت نفسه يطرح خطاباً يلمّح إلى طموح سياسي غير مباشر ــ سواء عبر المجلس الذي أسّسه أو عبر موقعه الرمزي داخل الطائفة.
وفي بلد يُعاد تشكيله من الصفر، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يتحوّل غزال غزال إلى مرجعية دينية ــ سياسية قادرة على لعب دور في مستقبل الساحل؟ أم أنّ حضوره سيبقى ظاهرة طارئة وُلدت من مرحلة السقوط وتختفي مع استقرار البُنى الجديدة؟
الساحل نفسه لا يملك جواباً واضحاً بعد. وربما لن يملكه قريباً.


