رلى إبراهيم-
«ممنوع على التيار دخول المنطقة»، و«سأطحش على أي بيت تابع للتيار لأن البلدية لازم تكون قوات. وإلا، وحياة المسيح، بدي أصلبن عالحيطان وانزل بالساطور عليهم». على وقع هذا البيان «الديموقراطي» للمسؤول القواتي في بلدة أنان – جزين، ريمون متى، في تسجيل صوتي مسرّب، تشهد جزين واحدة من أكثر المعارك البلدية توتراً، تدير بها معراب الاستحقاق البلدي باستخدام لغة ميليشياوية تُلغي الخصم وتشرّع العنف وترفع منسوب الخطاب المذهبي والطائفي.
ومعركة جزين هي آخر معارك الاستحقاق البلدي بين حزبي التيار الوطني الحر و«القوات اللبنانية». يطمح الأول إلى تسجيل فوز صافٍ على معراب لتأكيد أن جزين لا تزال عونية، بينما يسعى القواتيون إلى تتويج فوزهم في زحلة، بالقبض على مدينة لم تكن يوماً لهم. ويكتسب الصراع أهمية أكبر كون القضاء هو مسقط رأس رئيس الجمهورية جوزيف عون، وبالتالي لا يمكن فصل مجريات المعركة عن كل تلك العوامل وعن حماوة اللعبة البلدية والأجواء المشحونة بين مختلف الأفرقاء في المدينة.
حتى اللحظة، تتنافس لائحتان: الأولى برئاسة دافيد الحلو مدعومة من التيار والنائب السابق إبراهيم عازار، والثانية برئاسة بشارة عون مدعومة من «القوات اللبنانية». وكالعادة، افتتحت «القوات» المعركة باتهام خصومها بالتحالف مع «الممانعة»، في إشارة إلى العلاقة الجيدة التي تربط عازار بحركة أمل. لكن اللافت أن هذه العلاقة لم تكن مشكلة يوم تحالف سمير جعجع نفسه مع عازار عام 2010 ضد التيار، ولا عندما تفاوض معه قبل أسابيع لتشكيل لائحة مشتركة قبل أن تطيح القوات بالمفاوضات عبر شروط تعجيزية، ولا حين دخل حزب «القوات» بلدية بيروت على ظهر لوائح يدعمها حزب الله وحركة أمل.
المفارقة أن المعركة في جزين مسيحية – مسيحية بامتياز، ولا وجود لأي ناخب شيعي يمكن أن يُبرّر سردية «الممانعة» التي تحاول القوات فرضها. فهل يُعقل أن تكون «الممانعة» حاضرة من دون جمهور؟ أم إن المطلوب فقط خلق عدو وهمي لتبرير التصعيد والخطاب التحريضي؟
أربع قوى رئيسية تتقاطع وتتصادم في جزين: عائلتا عازار والحلو بما لهما من حيثية اجتماعية وتاريخية وازنة، إضافة إلى «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية».
منذ البداية، لم ينزل التيار إلى المعركة على قاعدة «أنا أو لا أحد»، بل فتح باب النقاش على توافق يضمن تمثيلاً متوازناً، ويُجنّب المدينة انقسامات حادة. وهنا برز دور رجل الأعمال المعروف غازي الحلو، الذي يتمتع بحضور اجتماعي كبير، كعرّاب لمسار وسطي طرح شقيقه دافيد الحلو مرشحاً توافقياً لرئاسة البلدية. لكن «القوات اللبنانية»، كعادتها، أطاحت بهذا المسار، بعدما طالبت بتقاسم الولاية البلدية.
رداً على ذلك، اعتمد التيار الاستراتيجية نفسها التي اتبعها بنجاح في جبيل وكسروان والمتن، بالتحالف مع قوى محلية حتى لو كانت من الخصوم السياسيين السابقين. وهكذا، نشأ تفاهم بين النائب السابق أمل بو زيد وعازار، ووُلدت لائحة بلدية برئاسة دافيد الحلو، تضم وجوهًا شابة.
الحلو، من جهته، يتمتع بعلاقات جيدة مع معظم مكوّنات المدينة، بمن فيها النائب السابق زياد أسود، الخارج من التيار، والذي علّق صورة للحلو على مدخل جزين، رغم تحفّظه على بعض أسماء اللائحة، ونيته وضع تشكيلته الخاصة من الأسماء التي سينتخبها.
في المقابل، وفيما نجحت «القوات اللبنانية» في تقديم مرشحين يحظون بالقبول في بلدات مثل بشري وزحلة، أخفقت في تكرار هذا النموذج في جزين حيث تبنّت اسماً مثيراً للجدل: بشارة عون، أحد مالكي الكسارات، المعروف بقربه من معراب دون أن يكون منضوياً في صفوف «القوات» حزبياً.
ولا يُخفي عون «فخره» بمهنته؛ إذ ينشر صوراً لآلياته الضخمة وهي تنحت في الجبال، ويظهر مبتسمًا أمام مشاهد الدمار البيئي. والطريف أن برنامجه الانتخابي يتضمن مشروعاً لـ«تأهيل الأراضي المتضرّرة من المقالع والكسارات»… في مشهد سوريالي أشبه بمن يشعل الحريق ويعد بإطفائه! وفي المدينة اليوم، باتت تُتداول نكتة سياسية تقول: «إذا ربح بشارة عون، رح تصير جزين مطلة على بحيرة القرعون»، في إشارة إلى الجبل الفاصل بين المنطقتين والذي يمكن أن يُدمَّر إن استُكمل «مشروعه الطبيعي».
وتطرح أوساط جزينية أسئلة جدية حول خلفية ترشيح عون، خصوصاً أن «القوات» تملك في صفوفها أسماء حزبية ذات وزن شعبي، أبرزهم نائب رئيس البلدية الحالي سامر عون، الضليع في ملفات البلدة والعارف بتفاصيلها الإنمائية، إضافة إلى وجوه أخرى في اللائحة القواتية تتمتع بشعبية محلية. فيما يبدو أن المعيار في الاختيار ليس الكفاءة ولا الحضور الجماهيري، بل القدرة على تمويل اللائحة.
وتحظى اللائحة القواتية أيضاً بدعم سياسي من شخصيات كالوزير السابق إدمون رزق والمرشح السابق إلى الانتخابات النيابية كميل سرحال، إلا أن المعركة لا تُختزل بالأسماء، بل بتحالفات وماكينات واستعداد ميداني.
على المقلب الآخر، يبدو التيار الوطني الحر مستعداً تماماً للمعركة التي يبدو أنها ستكون الأقسى. وهو، للمرة الأولى منذ سنوات، فعّل ماكينة انتخابية حقيقية، منظمة ومتماسكة، منذ أكثر من شهر، خلافاً لما اعتاده في استحقاقات بلدية سابقة، بما يؤشر إلى إدراكه لأهمية المدينة كرمز للثقل المسيحي في الجنوب، وكموقع حساس في ميزان القوى مع القوات… كذلك تعمل ماكينة آل عازار بكامل طاقتها، إلى جانب «نصف» ماكينة لآل الحلو.
تتألف بلدية جزين من 18 عضواً، وهي الأكبر بين البلدات المسيحية في الجنوب، ويبلغ عدد ناخبيها حوالى 10 آلاف. لهذا لا تبدو المعركة رمزية فقط، بل مفصلية في تحديد هوية المدينة، وما إذا كانت ستقع في يد من قضى عمره يحفر الجبال ليطمر بها أي أمل حقيقي بالتنمية المستدامة.