مرارة الواقع وأحلام اليقظة (حبيب البستاني)

كان كل شيء يسير وفق التسريبات أو لنقل “التعليمات” والتعليمة هي لغة الذين يلعبون السبق كما يقال في الدارج أي سباق الخيل، وهؤلاء اللاعبين وما أكثرهم كانوا يراهنون على الأحصنة الرابحة وذلك بحسب تعليمة يتلقونها من هنا أو هناك، وكانت مجلة ال “هبٍت” واحدة من المجلات المتخصصة في هذا المجال، سقى الله أيام الزمن الجميل حيث كانت التوقعات لا تجر إلا إلى خسائر مادية بسيطة يتحملها ابناء الكار. أما اليوم فاللعبة أكبر و”التعليمة” تأتي من مصادر موثوقة ومؤكدة ولنقل أنها تأتي من سفارات أو مخابرات ضليعة بفك الطلاسم فيتلهفها بعض المحظيين أو الذين يعتبرون انفسهم كذلك، إذ إن الأخبار تأتي لهم وحدهم في البداية ليكون لهم الشرف والأفضلية في  توزيعها على المحازبين والتابعين، ولما لا فإنها تُعطى للأصدقاء لكي يتخذوا الحيطة والحذر. هكذا كانت الحال في البلد قبيل محاولة اغتيال ترامب ومن ثم انسحاب بايدن من السباق الرئاسي. والتعليمة كما يقول “السبقجيي” أي لاعبي السبق كانت تقضي بأن يقوم نتنياهو بضربة خاطفة على لبنان وخاصة بيروت وطرد حزب الله من البلد ليصار بعدها إلى ضرب إيران في مرحلة لاحقة، وذلك إبان رئاسة بايدن وقبل استلام ترامب المرجح فوزه، فبايدن لا يعارض الحرب وإن كان لا يشجع عليها بينما ترامب فهو مناهض للحرب ليس في الشرق الأوسط فحسب بل وصولاً إلى أوكرانيا. وهنا نورد أنه عند بداية ولاية ترامب في 20 يناير 2017 بدأ هذا الأخير بانتهاج سياسة جديدة تجاه إيران فأعلن إدانته للاتفاق النووي الذي استفادت منه أوروبا على حد زعمه وحُرمت بذلك الولايات المتحدة من مئات ملايين الدولارات من عائدات النفط الإيراني واستثماراته، وأعلن عن انتهاج سياسة خارجية تعتمد أكثر على الدبلوماسية. 
 
كل الدلائل كانت تشير إلى احتمال الضربة 
وقد عزز من احتمال الضربة الإسرائيلية عدة عوامل وفي مقدمتها الهجوم الجوي الإسرائيلي على ميناء الحديدة في اليمن الذي اعتبره البعض بمثابة أول الغيث، والعامل الثاني هو عزوف نتنياهو عن إرسال فريق التفاوض إلى الدوحة. وفي هذا السياق كانت ردود الفعل اللبنانية على “تعليمة” الهجوم متباينة إذ إن قوى المعارضة راحت تمني النفس بأن نهاية الحزب قادمة فارتفع منسوب الخطاب السياسي الرافض للحوار والمنادي بعدم التعاون مع دولة يتواجد فيها الحزب، أما الأنباء الآتية من المختارة فكانت تفيد عن إعطاء البك تعليماته باتخاذ كل التدابير الاحترازية لاستقبال نازحي الجنوب الجدد في الجبل وذلك كما حصل بعيد حرب ال2006. 
 
 
ما كل ما يتمناه المرء يدركه
كل ذلك ما لبث أن انقلب رأساً على عقب، فبعيد انسحاب بايدن من السباق الرئاسي تحسس نتنياهو أن ترامب بات على بعد خطوات من البيت الأبيض، وبالتالي لا مجال للعب في الوقت الضائع مع وجود رئيس مع وقف التنفيذ في المكتب البيضاوي. فعلى ما يبدو تراجع نتنياهو عن خططه وسارع في إرسال فريقه إلى قطر لاستكمال المفاوضات وذلك تزامناً مع بدء زيارته للولايات المتحدة ولقاءاته مع بايدن، إذا سمحت حالته الصحية، وترامب، وعشية وقوفه أمام الكونغرس الأميركي. هكذا باءت توقعات السفارات والمخبرين بالفشل، والسؤال المطروح هو ماذا سيفعل أركان المعارضة تجاه هذه المتغيرات؟ وهل سيحذون حذو نتنياهو فيتحلوا بالعقلانية ويقوموا بمراجعة حساباتهم “الغير دقيقة” وبالتالي الذهاب نحو تسوية داخلية تنقذ ماء الوجه؟ أم أنهم سيتمترسون وراء مواقفهم وخطاباتهم الهمايونية التي لن تلقى بعد الآن أذاناً صاغية، فمن يتبع المجرًب يكون عقله مخرب. فقليلاً من التواضع يا سادة ولنذهب لحوار وانتخاب رئيس جديد للبلاد يكون لكم شرف المشاركة في صناعته، لأن مرارة الوقع ستكذب أحلام اليقظة.
كاتب سياسي*

You might also like