لبنان والخطر الآتي من الشرق

فراس الشوفي –

لا يشكّل الجهاديون الأجانب في سوريا مشكلة لها فحسب، بل يتعدّى خطرهم الحدود، وهم ينتشرون اليوم في 70% من مساحة البلاد بعد خروجهم من إدلب. وباتوا بمثابة خطر دولي وإقليمي، مع تأثيرات أكبر على لبنان، الذي تحضنه الحدود السورية من الشرق والشمال ويرتبط نسيجه الاجتماعي ارتباطاً عضوياً بالنسيج السوري.

وإن كانت حفلات التطمينات الرائجة هذه الأيام، من قبل أصحاب المصالح الإقليمية والدولية على بثّ أجواء إيجابية عن الوضع على الأرض السورية قد «نيّمت بعض اللبنانيين على حرير»، فإن الوقائع العملية وسير الأحداث اليومية تنبئ «بوجع رأس» للبنان قد يمتد لسنوات، مع غياب الرؤية الفعلية لدى الإدارة الأميركية لمعالجة ملف المقاتلين الأجانب في سوريا بصورة فعّالة ودخولها، في مرحلة ضغوط لتوقيع اتفاقية تطبيع مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب بحسب الوصفة الأميركية.

وتبدو الإدارة الأميركية مستعجلة لطي صفحة ملفات الشرق الأوسط، لكن من دون معالجة حقيقية لأي أزمة من الأزمات المتراكمة. ويبدو أن واشنطن سلّمت بالخطة – اللَّاخطة، التي طرحتها الإدارة السورية الجديدة بدمج المقاتلين الأجانب في الجيش السوري الجديد وتسليم بعض أبرز هؤلاء المقاتلين مناصب رفيعة في الجيش.

وبعدما كانت الرموز الأمنية والعسكرية الأميركية تضع الشروط على الرئيس المؤقّت أحمد الشرع حول مدى انخراط هؤلاء في القوات المسلحة، جاءت خطوات الرئيس دونالد ترامب من دون أي وضوح في مصير هذه المسألة، تماماً كما لم تُفهم أسباب إزالة واشنطن تنظيم مثل الحزب الإسلامي التركستاني عن لوائح الإرهاب خلال ولاية ترامب الأولى، إلا في إطار المناكفة مع الصينيين.

تراوِح التقديرات حول أعداد المقاتلين الأجانب في سوريا بين 12 و15 ألفاً بحسب عدّة مصادر، معظمهم يتحدّرون من أصول آسيوية من الصين وأواسط آسيا والعالم التركماني، وغالبية هؤلاء أيضاً من التركستان، مع مئات الأوروبيين من أصول عربية وإسلامية وبعض الأذريين والألبان والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والأردنيين ودول المغرب العربي.

غير أن أبرز المميزات لهؤلاء المقاتلين، هو تنقّلهم على جبهات القتال قبل الوصول إلى سوريا عبر تركيا بشكل رئيسي كعناصر في تنظيمات تابعة مباشرةً لتنظيم القاعدة، بالإضافة إلى المقاتلين الأجانب في تنظيم «داعش»، وقد جاؤوا من تركستان الشرقية في الصين والشيشان وأفغانسان إلى العراق وشمال أفريقيا وغيرها من البقاع الساخنة التي يعمل فيها العنصر التكفيري. فضلاً عن أن هؤلاء حافظوا خلال وجودهم في سوريا على تنظيمات متماسكة ذات غالبية عرقية واحدة، لا تهادن ولا تنخرط في التسويات، وتستطيع الصمود تحت أقسى الظروف.

المقاتلون الأجانب الذين «نفروا» إلى سوريا بسبب اعتراضهم على أنظمة الحكم القائمة في بلادهم، وبهدف فرض الشريعة الإسلامية على الأرض السورية، لا يطمحون إلى تلبية ما يريده الغرب من الشرع، سواء في ملفات الأقليات أو مكافحة الإرهاب أو التطبيع مع إسرائيل. فهؤلاء المقاتلون الأجانب ليسوا جسماً مقاتلاً فحسب، بل يتمسكون أيضاً بعقيدة دينية متشدّدة تريد فرض الشريعة كنظام حكم وتكفّر الأقليات الدينية والسنّة الذين يخالفونهم، ولا يبدون البراغماتية التي يحاول الشرع تصويرها عن سياساته، ويملكون روابط وثيقة بتنظيم «القاعدة» لا يمكن التخلي عنها بسهولة أو تجاوزها.

وأثبتت أحداث الساحل في آذار الماضي مشاركة الأجانب في قتل 500 مواطن سوري من أصل 1500 تحدّث عنهم تقرير «رويترز» الأخير بسبب انتمائهم إلى الطائفة العلوية، بالإضافة إلى الاعتداءات التي يتعرّض لها المسيحيون في حماه من قبل جماعات مسلحة من ضمنها مقاتلون أجانب.

الحل الذي تطرحه الإدارة السورية الجديدة والذي يقوم على دمج هؤلاء العناصر داخل الجيش السوري الجديد، تبدو نتائجه كارثية حتى الآن. فقد تمّ تخصيص فرق كاملة لتضم المقاتلين الأجانب كما كانت عليه فصائلهم السابقة، وبقياداتهم ذاتها، مثل ما حصل على سبيل المثال مع زعيم الحزب الإسلامي التركستاني في سوريا عبد العزيز داوود خدابري الذي بات عميداً اليوم في الجيش السوري الجديد وقائداً للفرقة 133.

تبيع الإدارة السورية الجديدة فكرتها للغرب على قاعدة أنها حتى لو شكّلت فرقاً من المقاتلين الأجانب ستقوم بعدها بضم مقاتلين سوريين جدد إليها في محاولة لتذويب العناصر الأجانب بين السوريين. لكن ما يقوله الشرع لا يُقنِع أحداً، حتى وإن كان بعض الذين لا يريدون تظهير حقيقة الموقف في سوريا، يتعاملون معه بغضّ الطرف، سيما أن الرهان على تذويب العناصر الجهاديين سيأتي بنتائج عكسية بلا شكّ، حيث يملك المقاتلون الأجانب مؤهّلات أعلى بكثير من الجنود السوريين الجدد الذين يلتحقون بالجيش الجديد، ما يتيح لهم فرصة التأثير على الجدد.

فهل يمكن تخيّل نوع التأثير على شباب في العشرينيات، وهم يقفون قبالة مقاتلين جهاديين يملكون الخبرات وسني العمل الطويلة والدافع والتصميم؟ فضلاً عن أن الجيش السوري الجديد، ليس تنظيماً قوياً متماسكاً لكي يذيب هؤلاء العناصر، حيث تتوزع مناطق النفوذ في الجيش بين الفصائل التابعة لهيئة تحرير الشام على أساس جغرافي لفرق وآليات تسيطر على مناطق بعينها ويديرها الأمراء الذين صاروا ضباطاً في الجيش الجديد، ما يعني أن هؤلاء سيتمكنون من الحصول على الموارد والمساحات والأسلحة التي لم يملكوها يوماًفي أي من ساحات القتال السابقة، لتقوية نفوذهم وتثبيت أرضية الحضور بحسب نظرية «التمكين»، قبل الانتقال إلى تصدير الأفكار الجهادية، التي نفروا لنشرها أساساً في سوريا، ولبنان أقرب الساحات، بالإضافة إلى الأردن والعراق.

تتجمّع الآن عناصر الصدام الخارجية والداخلية بين الإدارة الجديدة والمقاتلين الأجانب بشكل عام، إلا أن ذلك يتوقّف على الخطوات التي سيتخذها الشرع. لأن سيره في تلبية طلبات الغرب، سيزيد ذلك من احتمال الصدام مع الأجانب ومع المجموعات المتمسّكة بالهوية القديمة للشرع، بوصفه أبا محمد الجولاني، ما يعني تفجّر صراع مسلح واسع النطاق. وإذا ما قرّر الشرع أخذ وقته، فسوف يكون هو، وسوريا الجديدة تحت مقصلة الضغوط الغربية، ما يعزّز فرضيات الانهيار وتفشّي الفوضى الشاملة، الأمر الذي يمنح المقاتلين الأجانب هوامش أوسع للعمل من دون أي ضوابط في سوريا ومحيطها وفي كل الساحات الأخرى.

تضع معضلة المقاتلين الأجانب بلداً مثل لبنان أمام مخاطر سياسية وأمنية عديدة، إذ إن طول الحدود اللبنانية مع سوريا، والتداخل الاجتماعي يجعلان تأثير التطرف في سوريا كبيراً على الساحة اللبنانية، وقد بدأت مظاهر ذلك تظهر في الشمال وبعض مناطق البقاع، كنتيجة طبيعية للتحولات في سوريا.

وكذلك يشكّل المناخ السياسي اللبناني والصراعات الطائفية، محفّزاً أمام المقاتلين الأجانب والجماعات المتطرفة الأخرى، للقيام بتحركات أمنية وإرهابية تستغل الأوضاع القائمة لتنفيذ هجمات ضد طوائف معيّنة في الداخل اللبناني بهدف الانتقام أو تطبيق لأحكام دينية متطرّفة تؤمن بها تلك الجماعات. وقد شكّل الهجوم على كنيسة مار الياس في دمشق، مؤشراً إلى خطورة الموقف، خصوصاً أنه أتى بعد ما حصل في الساحل بحق العلويين والهجوم على الدروز في جرمانا وصحنايا، وكلها عمليات تمّت بمشاركة مقاتلين أجانب.

وسواء كانت رواية الإدارة السورية صحيحة حول قدوم الإرهابيين الذين نفّذوا الهجوم على الكنيسة من مخيم الهول، أو حتى رواية الأهالي حول وجود إرهابي سوري وآخر باكستاني، فإن ذلك يعيد الضوء إلى المقاتلين الأجانب في سوريا وفي مخيمات الشرق مثل مخيم الهول، حيث يتواجد سوريون وعراقيون من تنظيم «داعش». كما أن نمط الحياة في لبنان، يشكّل عاملاً آخر لتحاول تلك الجماعات فرض أنماط العيش التي نفرت من أجلها، ولا سيّما النشاط السياحي الكبير. وقد أثبتت تجربة الأشهر الماضية وجود دور للمقاتلين الأجانب في قمع الحريات الفردية والنمط الاجتماعي السائد عموماً في المدن السورية كحلب ودمشق بشكل خاص، ومحاولة نشر الدعوة والتبشير بين أبناء المدن، في مختلف الأحياء، حتى في أحياء السنّة وكأنّ هؤلاء ليسوا من المسلمين أيضاً!.

عدا الأعمال الأمنية المباشرة عبر الحدود، فإن تجربة المقاتلين الأجانب تدفع تنظيمات أخرى كانت تعمل سابقاً في لبنان للانتعاش. فعلى سبيل المثال، فإن تنظيم عبدالله عزام الذي كان ينشط في لبنان، صار جزءاً من كتيبة الغرباء، التي تضم مقاتلين آسيويين، وجرى دمجهم أيضاً في الجيش السوري الجديد. ومن أبرز عمليات التنظيم في لبنان، استهداف القوات الإسبانية العاملة ضمن قوات الطوارئ الدولية في الجنوب، بعبوة ناسفة أدّت إلى مقتل ستة جنود في عام 2007.

وبينما بدأت بعض الدوائر الأمنية اللبنانية بإبداء الاهتمام لمتابعة هذا الملفّ الخطير بالإضافة إلى ملفات الإرهاب الأخرى، يسود اعتقاد عند البعض أن العلاقة الأمنية مع تركيا والولايات المتحدة كافية لمعالجة هذا الملف، على قاعدة وجود حظوة للمخابرات التركية لدى هذه الجماعات بسبب دورها في تسهيل وصولها إلى سوريا والتأثير التركي في بعض الدول التي يتحدّر منها هؤلاء. إلا أن هذا الاعتقاد ليس محكوماً بالضرورة بالنجاح، خصوصاً استناداً إلى التجارب السابقة في حروب أميركا، حيث تعود التنظيمات أقوى في كل مرة تواجهها أميركا، كما حصل بعد الخروج الأميركي من العراق مع ظهور داعش، ومع طالبان بعد الانسحاب الأميركي أيضاً.

You might also like