عكس السير: الوطن الأكواريوم- (غسان سعود)

عكس السير: يحلو للبعض القول إن نشطاء المجتمع المدني يعيشون في أكواريوم (حوض) خاص بهم في حي بدارو، فلا يلتقون إلا ببعضهم بعضاً، ولا يرون ويسمعون ويلمسون من مشاكل الوطن إلا ما تسمح به حدود الأكواريوم في هذا الحي البيروتي. والفكرة بحد ذاتها عبقرية في توصيفها لواحدة من أبرز المشاكل التي واجهت عمل الجمعيات في العقدين الماضيين، ومنعتها من التوسع كما كانت تسمح موازناتها.

 

لكن التدقيق يبين أن ما يهيأ لنا أنه وطن بين مناسبة وأخرى (آخرها زيارة البابا)، ليس إلا رقعة جغرافية متنوعة التضاريس، تتوزع فيها عشرات مزارع الأسماك. مزارع أسماك ملونة، لكل لون مزرعة أو حوض أو أكواريوم حفاظاً على الحياء العام ومشاعر المعنيين. لا توجد أحزاب بالمعنى السياسي – الاجتماعي – الثقافي، بل أكواريومات تزدحم فيها الأسماك؛ كبيرة وصغيره، بحرية ونهرية، سريعة وبطيئة، حية وميتة، لطيفة ومتوحشة، للقلي وللشوي، صخرية ورملية، سلطان ابراهيم ولقز ومليفة وحفش وبوري وغبس وهامور وقاروص.

 

تتوزع بحسب اللون على الأكواريومات، لا بحسب المعرفة أو الثقافة أو الذكاء. يناقش كل منها بعضها البعض داخل الأكواريوم، لكنها لا تسعى لمناقشة أو إقناع الأسماك في الأحواض الأخرى بأي شيء. ولا يمكنها الخروج من الأكواريوم لأنها تموت فور خروجها من المياه. وحتى في حال وجدت حوضاً آخر، فإن لونها يحول دون اندماجها في أي بيئة جديدة، إذ ستواصل أسماك الأكواريوم الجديد التعامل معها، ولو بعد عشرات السنوات، بوصفها من الأكواريوم الأول.

 

نصف المشكلة في الحزبي الذي لا يعرف كيف يطوي الصفحة بعد مغادرته الحزب، فيواصل التأرجح “لا معلق ولا مطلق”، ونصف المشكلة الآخر في المجتمع الذي يصر على التصرف معه بعد خروجه من الحزب باعتباره حزبياً سابقاً، فلا يسأله الإعلام عن شيء مثلاً إلا عن حزبه السابق، ويصبح المبرر الوحيد لوجوده أو استضافته أو الاستثمار فيه هو حزبه السابق.

 

واللافت جداً أن كثيرين من الوطنيين الأحرار والنمور، إلى الكتائب بحركاتها التصحيحية المتعددة، إلى أصدقاء كمال جنبلاط في الحزب التقدمي الاشتراكي، إلى الشيوعي والقومي والقوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله وكل الآخرين: كان ثمة نجوم حقيقيون لم يتخيل أحد أن تنتهي مسيرتهم السياسية بانتهاء صلاحية بطاقتهم الحزبية.

 

مع العلم أن البعض في الأدب والكتابة والمسرح والمال والأعمال عرف كيف يحافظ على اسمه ويواصل مسيرته، لكن من دون أن ينشئ لنفسه أكواريوم – ولو صغيراً – خاصاً به.

 

واللافت أن هناك ما يشبه الاتفاق بين أصحاب الأكواريومات حيث يمكن استخدام الأسماك الخارجة من أحواضها للتزريك والتمريك وتسجيل النقاط، لكن لن يتخلى أحد عن واحدة من سمكاته لمصلحة السمكة الطارئة. كثيرون – لا سيما في الكتائب والقومي – اعتقدوا أنهم أهم وأكبر من أحزابهم أو أنهم قادرون على الاستمرار من دون أحزابهم، لكن الرئيس أمين الجميل نفسه خاض الأمرّين ليعود نجله إلى الصيفي، ويستعيد مفاتيح البيت المركزي.

You might also like