باسمة عطوي –
جمعت ندوة «استراتيجيات وشروط اعادة بناء اقتصادنا الوطني»، التي نظمتها «جمعية متخرجي جامعات الولايات المتحدة الاميركية» في جامعة هيكازيان يوم الثلاثاء، آراء متباينة لخبراء اقتصاديين حول أسباب الأزمة التي نتخبط فيها منذ أربع سنوات ونيف. وأظهرت الانقسام الحاصل في البلاد عمودياً وأفقياً حول أسباب الانهيار وكيفية الخروج منه. المنصة جمعت مجموعة خبراء: الدكتور ايلي يشوعي والدكتور حسن خليل والزميل البير كوستانيان، ووسطي حاول امساك العصا من المنتصف (الدكتور بول هيدوسيان) الذي تحدث عن مسؤولية السلطة بالمطلق من دون أن يسمي الامور بأسمائها، بالاضافة الى الباحث المصرفي الدكتور نسيب غبريل الذي جسّد وجهة نظر المصارف حيال الانهيار والحلول للخروج من الوضع الحالي.
ماذا قال أرسطو؟
بعد كلمة ترحيبية من رئيس الجمعية الدكتور سامي الريشوني، ترأس الجلسة وأدارها نائب رئيس الجمعية غسان ناصيف ثم تحدث العضو في الجمعية الدكتور بول هيدوسيان عن «العلاقة المباشرة بين الاقتصاد والاخلاق»، فأشار الى أن «الفيلسوف اليوناني أرسطو كان من الاوائل الذين فهموا الاخلاق من الناحية العملية والتطبيقية، حين اعتبر أنه لا يتجلى العدل والانصاف الا من خلال الاقتصاد والمعاملة مع المجتمع». مشيراً الى أنه في «الوقت الحاضر ليس من الشائع بالنسبة للمنظرين واللاهوتيين مناقشة التفاصيل الاقتصادية بشكل أخلاقي. اليوم، الربط بين الاخلاق والافكار العامة اختلف في معظم النقاشات، والاقتصاد هو الركيزة كي تكون العلاقات الانسانية وانظمة القيم واضحة، وليس علم تحقيق الربح بأي ثمن بل هو علم الاشراف على المجتمع بحكمة وخبرة».
أزمة في السياسة
بعدها تحدث رئيس قسم الابحاث في بنك بيبلوس الخبير الاقتصادي نسيب غبريل عن «مقومات اعادة الثقة والخروج من الازمة» فلفت الى أن «المشكلة الاساسية في لبنان انه بعد مرور 4 سنوات ونصف على اندلاع الازمة، لا اجماع على جذورها وحدودها»، مشيراً الى أن «هناك من يعتبر أنها تقنية بحت (عجز في الموازنة والدين العام) وما خلفته من تباطؤ اقتصادي، وهناك من يعتبر (وهو منهم) أن اسبابها سوء استعمال السلطة السياسية وسوء ادارة القطاع العام ونتج عن ذلك كل مؤشرات الانهيار». وذكّر أن «أبرز الامثلة على سوء استخدام السلطة السياسية هي أنه بين آذار 2013 وأيلول 2021، حصل هدر وقت كبير في تشكيل الحكومات. استغرق تشكيل الحكومة الحالية 13 شهراً في خضم الازمة، وهذا ما ادى الى تراكم الفرص الضائعة على الاقتصاد اللبناني وزيادة الكلفة عليه وهذا الامر مستمر، مما ادى الى تباطؤ الحركة الاقتصادية وتدفق رؤوس الاموال، وتأجيل الاصلاحات».
وجزم غبريل بأن «هذا ما يظهر في مؤشرات الحوكمة والادارة الرشيدة التي تصدر عن البنك الدولي شاملةً 215 بلداً، والتي تقول ان 89.5% من بلدان العالم فعّالة أكثر من الحكومات اللبنانية المتعاقبة و86.5% من بلدان العالم تطبّق قوانينها أفضل من لبنان ولديها قوانين تدعم القطاع الخاص والحركة الاقتصادية، و87% منها تضبط الفساد افضل من لبنان، واهم مؤشر ان 92% من بلدان العالم لديها استقرار سياسي أفضل من لبنان».
ورأى أن «الشق الثاني من اسباب الازمة هو سوء ادارة القطاع العام، كما ان هناك تقاذف مسؤوليات بين الجهات المعنية حول الانهيار الذي كان أول مؤشراته في آب 2019 حين ظهر سعر موازٍ للدولار الى جانب السعر الرسمي. وكان يجب اقرار قانون للكابيتال كونترول حينها»، شارحاً أنه «بعدها بدأت مرحلة اخطاء ادارة الازمة، اي عدم اقرار الكابيتال كونترول وقرار التعثر عن سداد سندات اليوروبوند الفوضوي، سياسة الدعم التي كلّفت نحو 14 مليار دولار، والسردية التي بدأنا نسمعها ان هناك فجوة مالية بـ70 مليار دولار يجب ان يقابلها شطب لاموال المودعين والغاء القطاع المصرفي». وشدّد على أنه «لا يمكن الاستمرار في تقاذف المسؤوليات من دون حل جدي، علما أن المستفيد من هذا الوضع هو المالية العامة، والدليل ان الدين العام كان 102 مليار دولار هو اليوم 5 مليارات و200 مليون دولار على سعر الدولار الحالي، و60 بالمئة من حجم الدين العام كان بالليرة اللبنانية واليوم بات بقيمة مليار دولار، وسندات اليوروبوند كانت قيمتها 31 مليار دولار واليوم مليارين و200 مليون دولار، بالاضافة الى مليارين كديون الى مؤسسات متعددة الاطراف».
وختم: «الحل هو استعادة الثقة بالالتزام بالمهل الدستورية وتطبيق القوانين وفصل السلطات واحترام استقلالية القضاء ومكافحة الفساد، والاجراءت التقنية وحدها ولا سيما في القطاع المصرفي لا تكفي، لذلك لا بد من جلوس الجميع الى الطاولة لايجاد الحل ووقف تقاذف المسؤوليات».
الوصول إلى الاستقرار
تناول الدكتور ايلي يشوعي في مداخلته عنوان «النظام المصرفي واستقرار الاقتصاد»، وشرح أن «حجم الاقتصاد يتوقف على استهلاك القطاعين الخاص والعام اي الانفاق الرسمي في الموازنة على السلع والخدمات والاستثمار الداخلي والتصدير»، مشيراً الى أن «الاستثمار هو مصدر الاستهلاك والتصدير، والمصارف هي مصدر الاستثمار ويفترض حصول نمو اقتصادي لتوسيع الحجم السنوي للاقتصاد، وذلك يحتاج الى استثمارات كافية والى قطاع مصرفي يغذي النمو، وهذا يعني أن المصارف حجر زاوية في أي بنيان اقتصادي، وانهيارها يعني انهيار الاقتصاد الطبيعي وادخال المجتمع في فوضى الاقتصاد النقدي وانشطته غير الشرعية، كما أن الاستقرار الاقتصادي يحتاج الى سلام سياسي وامني ومصرف مركزي يبني سياسته على تعزيز نمو الاقتصاد ومستوى السيولة وتحقيق استقرار نقدي يختلف جوهرياً عن التثبيت النقدي».
وسأل: «في الوقائع هل لدينا قدرة الوصول الى الاقتصاد الطبيعي والى دولة مؤسسات غير مفلسة والى نظام نقدي غير مفلس؟ نشهد تناقضاً كبيراً في واقعنا، كدولة ومصرف مركزي ومصارف مفلسة وسياسيين ومصرفيين واداريين من كبار الاثرياء. لذلك أرى أن امامنا 5 ابواب موصدة في وجه اعادة النهوض والتعافي المالي والاقتصادي: الشرط الاول للتعافي هو اعادة تكوين الثروة الوطنية الضائعة، والمتمثلة بالودائع بالدولار التي وصلت الى 120 مليار دولار وتراجعت الى 85 مليار دولار كقيود دفترية بسبب التعاميم التذويبية للمصرف المركزي»، موضحاً أن «مشروع الحكومة يعالج الودائع بواسطة اصحابها دون اللجوء الى القضاء، ويقتطع منها اجزاء كبيرة رفضها مجلس الشورى، ويحمي هذا المشروع الودائع لحدود 100 ألف دولار، ويحوّل الودائع الكبيرة الى أدوات رأسمالية والى سندات بفوائد سنوية صفرية الفائدة، بالاضافة الى تصنيف الودائع بين محمية وغير محمية وهذا اول باب موصد للخروج من الازمة».
أضاف: «المصرف المركزي مضى بعيداً في سياسة تذويب قصري للودائع بالدولار، والفجوة المالية في المركزي التي حددتها «ألفاريز أند مارسال» بأكثر من 75 مليار دولار غائبة عن الحياة العامة، وبلا أي تحقيق قضائي بشأنها. وهذا يعني أن هناك باباً ثانياً موصداً يمنعنا من الخروج من الازمة»، محدداً «الباب الثالث بأن المصارف مشغولة بطريقتها في تذويب الودائع الدفترية بواسطة زيادة العمولات، بالاضافة الى تحويل دولار ما قبل 2019 الى 15 ألف ليرة واقل من ذلك بسبب العمولة بالرغم من نية رفع سعر الدولار الى 25 او 30 ألفاً، وقد فشلت الحكومة في اعادة هيكلة المصارف ودرس وضع كل مصرف على حدة واتخاذ القرار المناسب بشأنه».
وختم: «أما الباب الرابع والخامس الموصدان واللذان يمنعاننا من الخروج من الازمة، فهما القضاء المتفرج والعاجز عن القيام بأي تحقيق جدي، خصوصاً في ما يتعلق بالمرفأ، وبمليارات المودعين التي خسرها المركزي وشاب انفاقها فساد كبير، والنزوح السوري الذي يشكل خطراً وجودياً على لبنان».
حقائق وأوهام
تناول كوستانيان في مداخلته «أصول وشركات الدولة: حقائق وأوهام»، لافتاً الى أن «قلة الاخلاق وعدم تطبيق القوانين هي المسبب الرئيسي للازمة التي وصلنا اليها اليوم. وتجلى هذا الامر بعدة امثلة تظهر اننا نعيش في ظل مافيا متعددة الرؤوس من بعض القيمين على الدولة والمصرف المركزي وبعض المصارف وبعض كبار المودعين وبعض الاعلام والاقتصاديين، مما ساهم في خلق جو مافيوي يقفل على المعلومات ويزور ميزانيات لا سيما في المصرف المركزي، والامثلة الاخرى عديدة، بالاضافة الى غش الرأي العام واخفاء المعلومات عنه»، مشدداً على أن «المصارف تتحمل مسؤولية كبيرة جداً في هذا الموضوع من خلال الترويج بان الليرة كانت بخير مما تسبب «بخراب بيوت اللبنانيين»، بالاضافة الى شراء الضمائر في الاعلام لتخدير الناس لعشرات السنوات على حساب المودع الصغير».
أضاف: «اسوأ مما اوصلنا الى هذه الازمة هو كيفية ادارتها، لأنه حين وقعت الواقعة استمر انكارها وتحول الحديث عن الازمة للقول بأنها ازمة سيولة وليس ازمة ملاءة. والمسؤولية تقع على الدولة الفاسدة بينما الجميع مسؤول، وتم نسف قانون الكابيتال كونترول من قبل جمعية المصارف ورئيس مجلس النواب نبيه بري. وسيستمرون بنسف كل الخطط. وصار الحديث ان رد اموال المودعين لا يتم الا من خلال استعمال اصول الدولة، وهذا الامر صحيح وغير صحيح. فمن جهة لا يجوز استعمال هذه الاصول لسد الفجوة المالية لأنها ملك كل اللبنانيين ويجب استعمالها لتنمية الاقتصاد».
وسأل: «ما هي اصول الدولة، انها شركات مثل الريجي والكازينو (ملك مصرف لبنان) وشركة طيران الشرق الاوسط وبقايا بنك انترا الذي هو صندوق اسود للرشوات من قبل المنظومة، ومرفأي بيروت وطرابلس ومطاري بيروت ورينيه معوض وعقارات خاصة»، مشدداً على أن»هناك اوهاماً حول قيمتها السوقية، والحقيقة ان هناك ملكاً عاماً (جبال وانهار وشواطئ) ليس لها قيمة سوقية، واراضي خاصة تملكها الدولة (60 ألف عقار خاص– 860 مليون متر مربع) اغلبيها (92 بالمئة منها) في منطقة بعلبك الهرمل ما يعني ان قيمتها السوقية منخفضة، بالاضافة الى شركات الاتصالات اوجيرو وتاتش وألفا ومؤسسات الخدمات العامة اي المياه والكهرباء».
وتابع: «كيف نتعامل بهذه الاصول؟ الأكيد انه يجب بيع الكازينو وقيمته بين 300 و400 مليون دولار هي للمودعين كون الكازينو هو من اصول مصرف لبنان وأن المودعين هم احق بعوائد الكازينو، وشركة الميدل ايست التي قيمتها بين 600 و700 مليون دولار يجب بيعها لتوسيع هامش المنافسة لدى الدولة اللبنانية وزيادة عائدات الخزينة، لان ملكيتها من قبل الدولة اكبر ضرر للاقتصاد لأنها تحاول رفع عوائد الشركة بينما الاقتصاد الوطني يستفيد من مبدأ التنافس، والاموال التي تجنى من بيعها هي من حق المودعين لانها ملك المصرف المركزي»، مشدداً على صعيد «الريجي انه يجب اعادة النظر بالقطاع ككل، كونه زراعة مضرة وغير صديقة للبيئة ويتم تمويلها بخسارة من الدولة خدمة لشراء الولاء السياسي، أما المرفأ والمطار، فليس هناك دولة في العالم تبيعهما مع ملكية الاراضي، ولكن يتم تلزيمهما لشركات دولية لاستثمارهما. وهذا ما يجب ان يحصل وهذا ايضاً ينطبق على قطاعي المياه والكهرباء لتحريرهما».
وختم: «يجب توظيف مؤسسات الدولة خدمة لاقامة اقتصاد مستدام، والا فان توظيف هذه الاصول من اجل رد اموال المودعين يعني رفع اسعار الخدمات لزيادة الارباح لسد اموال لكبار المودعين وهذا خطأ كبير جدً، وشخصياً انا ضد خلق شركة واحدة لادارة كل أصول الدولة (هناك مشاريع قوانين لنواب تابعين لأحزاب سياسية)، وهذا خطر كبير لانها ستدخل في المحاصصة السياسية والحزبية والمذهبية».
تحدث حسن خليل عن «خريطة طريق لاحياء واستعادة القيمة للاصول كمدخل لاستعادة الودائع وخريطة طريق للخروج من النفق»، موضحاً بأن «هناك تعليمات جازمة من الدولة العميقة بالتعاون مع جمعية المصارف للتعتيم على آرائنا واقفال ابواب المنابر الاعلامية في وجوهنا».
أضاف: «أستغرب انشغال الشعب اللبناني، بالرغم من كل ما يحصل في الاقليم والانهيار الاجتماعي والدولة الفاشلة، بالزعامات السياسية والحصص الطائفية. ولذلك أعلن هزيمتي في معركة اقودها منذ 27 سنة وواجهت فيها كل زعماء الطوائف، ولكن البعض فسر هذه المعركة على انها معركة شخصية طمعاً بالمناصب السياسية».
جزم خليل أن «كل الزعماء السياسيين يريدون تسخير الكفاءات العلمية لصالحهم، وإلا لا مفر لأي منا إلا الهجرة. كل ما يحكى لا قيمة له اذا لم نستطع التغيير. نحن نعلن الهزيمة امام منظومة سياسية مصرفية وقضائية واعلامية، والاخطر أن جزءاً من المنظومة العدوة للبنان هي المنظومة الشعبية، لأن اكثر الشعب اللبناني منزو بطائفته وزعامته وهذا مرض لبناني لا حل له». مشدداً على أن «الشعب لا يريد التحرر. قبل الازمة كان يطمع بالفوائد العالية وبعدها هو يعيش حالة انكار، ويصدق تصريح الرئيس بري بان الودائع مقدسة والبلد غير مفلس ونحن بتنا اعداء المودعين».
أضاف: «شخصياً حاولت جمع كل الجمعيات التي تعنى بأمور المودعين بجمعية واحدة، ولكن اكتشفت للأسف أنني أقاتل لأجل أناس لا يريدون من يقاتل لأجلهم، الاستاذ نسيب غبريل لم يحمّل المصارف مسؤولية خلال كلامه، والسياسيون يتشدقون في الكلام عن اصلاح الدولة، والبلد محكوم بكمية كبيرة من الغباء والشر. ومزيج الغباء والشر لا دواء سريع له بل يحتاج الى اجيال».
ولفت خليل الى أن «هناك احزاباً تدعي اليوم انها تلاحق رياض سلامة، ولكن من لاحقه ومنعه من السفر هم نحن مع مجموعة الشعب يريد اصلاح النظام. وتقدمنا بالدعاوى القضائية، ومن اقام الدعاوى على المصارف هم نفس المجموعة، والاحزاب تتنافس على ملاحقة القاضية غادة عون. وهذا يعني أنه لا يكفي سرقة الاموال بل ايضاً سرقة رصيد انجاز».
واعتبر أنه «لا يمكن اعادة احياء قيمة اصول المصارف والدولة الا مع وجود قطاع مصرفي، ولا يمكن اعادة هيكلة القطاع الحالي لأنه جثة هامدة ماتت لا يمكن ان يتطابق وجودها مع اي من المعايير الدولية المصرفية، وهو قطاع مفلس بالارقام. وما يمكن فعله هو وضعه تحت ادارة وتقييمه بين مصرف قابل للاستمرار وآخر لا يحمل المواصفات التي تمكنه من ذلك». مشدداً على «ضرورة عزل كل المصرفيين الكبار الذين شاركوا في التسبب بالانهيار، لاستعادة ثقة المستثمرين لأن المصرفيين اسوأ من السياسيين. والى ان تتم هذه العملية وفي ظل الجو السياسي الموجود لا يمكن ان يكون هناك دورة اقتصادية من دون قطاع مصرفي، وهذا يأتي عبر التقليع بالبلد من خلال فروع لمصارف اجنبية في لبنان لضمان ان تكون اموال الناس لدى المصارف المركزية التي تتبع لها هذه المصارف، وهذا مدار بحثه حالياً بيننا وبين صندوق النقد». وختم: «الأهم هو انه من دون قضاء سليم لا يمكن الخروج من الازمة».