مداخلة الدكتور أمل ابو زيد في الطاولة المستديرة المنعقدة في مدينة سان بطرسبورغ- روسيا بتاريخ ١٧ أبريل- نيسان ٢٠٢٥.
في الـ25 سنة الماضية (2000 – 2025) شهد الشرق الأوسط تحولات جذرية وعميقة وأحداثًا جسام. ولعبت ثلاثة تطورات مفصلية دورًا أساسيًا ومباشرًا في رسم مسار التحوّل والتغيير في الاتجاه لشرق أوسط جديد وكانت بمثابة نقاط تحول في مجرى الأوضاع والأحداث.
التطور الأول: القدوم العسكري الأميركي إلى الشرق الأوسط بعد هجمات 11 أيلول 2001 بدءًا من أفغانستان وصولاً إلى العراق الذي احتلته الولايات المتحدة بالتنسيق والتواطؤ مع ايران. هذا التطور أدّى ليس فقط إلى تغيير النظام في العراق وقيام نظام جديد مركزي – فدرالي قائم على 3 مجموعات طائفية قومية (شيعة – سنّة – أكراد) ونظام واقع تحت هيمنة ونفوذ أميركي – إيراني، وانما أدّى أيضًا إلى اطلاق يد ايران في المنطقة انطلاقًا من العراق وإلى ظهور مشروع إيراني توسّعي في العالم العربي تقدّم على أنقاض ثورات وانقلابات في زمن ما عُرف بالربيع العربي، وحصل التقدم الإيراني تحت غطاء أميركي وفي ظل تحالف موضوعي بين واشنطن وطهران بلغ ذروته في عهد أوباما الذي انحاز بشكل واضح إلى الخيار الشيعي واغضب حلفاء أميركا من الدول السنية التي بدأت في إعادة حساباتها والبحث عن مصادر حماية وعلاقات بديلة، وأخذت أوضح أشكالها في الاتفاق الإيراني – السعودي برعاية صينية.
التطور الثاني: انفجار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مع عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس في 7 أكتوبر 2023 وما تلاها من حرب مدمرة في غزة وأجزاء من لبنان (مناطق حزب الله). هذه الحرب ومن دون الخوض في عناصرها وعواملها المؤثرة كان أبرزها الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل والضعف الإيراني والإنشغال الروسي في الحرب الأوكرانية أدّت إلى تقويض حل الدولتين وأسس الدولة الفلسطينية وإلى ضرب وتشتيت محور ايران ومشروعها في المنطقة بعدما أصبحت حماس في حكم المنتهية عسكريًا والمسألة مسألة وقت، وأصبح حزب الله معطلاً ومحاصرًا بعدما خسر قيادته وكوادره وجزءًا كبيرًا من قدراته العسكرية وخضع لاتفاق وقف الناء بشروط إسرائيل. فيما الحليف اليمني لإيران (الحوثيون) بات أسير مواجهة مفتوحة مع أميركا وفاقدًا القدرة على التحكم بأمن البحر الأحمر والمضائق المائية الحيوية (خصوصًا باب المندب) ولكن النتيجة الأبرز لهذه الحرب، حرب غزة وطوفان الأقصى، كانت سقوط نظام بشار الأسد في سوريا الذي خلط أوراق المنطقة وأوراق الصراع فيها وعليها.
التطور الثالث: تمثّل في سقوط نظام بشار الأسد (مطلع كانون الأول 2024) بعد أكثر من نصف قرن على حكم حزب البعث وآل الأسد. هذا الحدث الكبير أدّى إلى نتائج استراتيجية فورية أبرزها:
خسارة روسيا لأهم حليف ومرتكز استراتيجي لها في العالم العربي وعلى شاطئ المتوسط. ولا يمكن لروسيا أن تحافظ على مستوى ومضمون العلاقة مع سوريا في ظل نظام جديد إسلامي، كما لا تعود القواعد العسكرية في اللاذقية وطرطوس كافية لتأمين نفوذها ومصالحها ولا يعود لهذه القواعد من جدوى استراتيجية بعد اليوم.
خروج ايران من سوريا بشكل كامل (عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا) ما أدّى إلى تضعضع محور المقاومة (محور ايران) وانفراط عقده لأن سوريا كانت تمثّل الحلقة الأقوى والمركزية في هذا المحور. وبالتالي فإن مشروع إيران الإقليمي أصيب إصابة مباشرة وبليغة وبدأ مرحلة الانحسار والانحدار وبدأ العد العكسي لعودة ايران إلى ايران أي إلى داخل حدودها وليصبح تركيزها وهدفها الحفاظ على النظام الإسلامي والدفاع عنه وتأمين استمراريته.
انقطاع خط التواصل البري الشريان الاستراتيجي الذي كان يربط طهران ببيروت ويؤمن امداد حزب الله بالسلاح والمال والتجهيز. ومع انقطاع هذا التواصل وتحول سوريا من دولة حليفة إلى دولة عدوة لحزب الله، فإنه صار واقعًا تحت حصار محكم من جهتي الجنوب (إسرائيل) والشرق (نظام الشرع) إضافة إلى حصار دولي عربي وإلى ضغوط داخلية من داخل بيئته المنكوبة ومن خصومه ومعارضيه ومن السلطة اللبنانية الجديدة التي يشارك فيها ولا يتحكم بها.
خروج روسيا وايران من سوريا قابلهما دخول تركيا واسرائيل، تركيا التي صارت اللاعب الأول في سوريا مع قيام سلطة جديدة موالية لها ونظام اسلامي حليف، واسرائيل التي فرضت نفسها طرفًا قويًا بالقوة العسكرية والاستيلاء على أجزاء واسعة من جنوب سوريا لإقامة منطقة أمنية أخرى. والنتيجة ان تنافسًا وصراعًا نشأ على الأرض السورية بين تركيا وإسرائيل، وان الولايات المتحدة تقوم بإدارة هذا الصراع وإقامة توازن وثيق بينهما.
اللاعب الجديد الذي دخل على الساحة السورية هو السعودية والأمير محمد بن سلمان. وهذه أول مرّة يخترق لاعب عربي سوريا ويجلس على الطاولة التي احتكرها 3 لاعبين إقليميين (2011 – 2024) أي تركيا وايران وإسرائيل. السعودية لا تريد تكرار الخطأ الذي ارتكبته بانسحابها التام من سوريا واخلاء الساحة لإيران والآن اخلاء الساحة لتركيا. وبادرت سريعًا إلى تقديم الدعم للنظام الجديد رغم تحفظاتها على لتركيا وعلى قوة هويته الإسلامية. وفي الواقع ثمة تقاطع موضوعي ومصلحي بين السعودية وإسرائيل على محاصرة النفوذ التركي في سوريا.
إحياء مشكلة الأقليات في المنطقة وعودتها إلى الواجهة وانطلاقًا من سوريا هذه المرة. كانت مشكلة الأقليات برزت بقوة بعد الاحتلال الأميركي للعراق الذي كشف عن تحالف أميركي مع الأقلية الكردية وعن دعم أميركي لنظام فدرالي يعطي الأكراد حكمًا ذاتيًا ووضعًا خاصًا وعلى قاعدة التحالف مع الشيعة الذين سيطروا بدعم إيراني على السلطة المركزية… وفي فترة ظهور داعش (2014 – 2018) اتجهت الأنظار إلى الأقليات الدينية والأثنية مثل الأقلية المسيحية (الأشورية – الكلدانية) والأقلية الأزيدية. وهذه الأقليات تعرضت لمجازر واضطهادات للخروج من العراق بأعداد كبيرة.
في سوريا وبعد سقوط الأسد يُطرح مصير الأقليات على بساط البحث وإن لجهة موقف النظام الإسلامي الجديد منها ومدى قدرته (ورغبته) في توفير الحماية لها وضمان حقوقها ودورها وأوضاعها، أو لجهة مصيرها ومستقبلها وما إذا كانت ستلاقي المصير الذي لاقته أقليات العراق.
في سوريا هناك 4 أقليات أساسية:
الأقلية العلوية: وهي الأكبر عددًا وحكمت سوريا عبر عائلة الأسد وتدفع ثمن سقوطه عبر حملة انتقامية ثأرية من جانب هيئة تحرير الشام والسلطة الجديدة التي تكنّ العداء الشديد للعلويين والشيعة ولحزب الله وتهدف إلى استئصال كل نفوذ متبقي لهم في سوريا والمجازر التي لحقت بالعلويين تذكّر بالمجازر التي نفذها نظام الأسد ضد السنّة في حماة معقل الأخوان المسلمين العام 1982 وما بعده..
الأقلية العلوية متمركزة في الساحل السوري وتلقت ضربة موجعة وبات مستقبلها متوقفًا على تطور الصراع الدولي على الأرض السورية وخارطة سوريا الجديدة وكيفية تقاسمها (وما إذا كانت روسيا مهتمة باقتطاع الساحل السوري ووضع يدها عليه بالتعاون مع العلويين).
الأقلية الكردية: وهي الأقوى عسكريًا بفعل الدعم الأميركي والحماية المتآتية من وجود عسكري أميركي. هذه الأقلية يتوقف مصيرها على القرار الأميركي بالبقاء أو الانسحاب إذ تركيا تتحيّن لحظة الخروج الأميركي للانقضاض على الأكراد بحجة أن “قسد” فرع لحزب العمال الكردستاني. وإسرائيل تطلب من الأميركيين البقاء للحؤول دون سقوط المنطقة الكردية في القبضة التركية والولايات المتحدة تقوم الآن بما كانت روسيا تقوم به سابقًا من تقريب بين السلطة المركزية في دمشق والأكراد والدفع باتجاه اتفاق وتعايش بينهما. وهذا الاتفاق مشروط من جانب الأكراد باعتراف دمشق بوضعهم الخاص ضمن نظام فدرالي ومشروط من جانب دمشق بإندماج الأكراد في الدولة السورية بدءًا بدمج قواتهم (قسد) في الجيش السوري.
الأقلية الدرزية: التي تحظى بوضع جغرافي مميز هو نقطة قوتها الأساسية كونها على تماس مع إسرائيل التي لها مصلحة في توسيع وجودها العسكري والاستيلاء على القنيطرة وجبل الشيخ وأجزاء واسعة من جنوب سوريا وذلك بالتعاون مع الدروز واعطائهم حوافز (أموال وسلاح وفرص عمل) وتحريضهم ضد دمشق وتشجيعهم على إقامة كيانهم الخاص لأن النظام الجديد لا يحميهم ولا يعترف بهم وكان للدروز تجربة قاسية مع هيئة تحرير الشام (في منطقة أدلب عندما كان اسمها جبهة النصرة) التي هجرّت دروز بلدتين درزيتين في هذه المنطقة بعد قتل وذبح العديد من أبنائها.
الأقلية المسيحية: لا سيما طائفة الروم الأرذوثكس التي تتخذ من دمشق مركزًا رئيسيًا لها، إضافة إلى الأرمن والموارنة والكاثوليك المنتشرين بين حلب ودمشق وأرياف حمص وحماه والساحل. وهذه الأقلية هي الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة في أوضاعها ووجودها يستند بشكل أساسي إلى حماية السلطة المركزية طالما هناك ضغوط دولية على هذه السلطة.
ان وضع الأقليات في سوريا هو وضع دقيق طالما ان النظام الجديد الإسلامي لا يعاملها على قدم المساواة ولا يعطيها شراكة متكافئة في الحكم. وطالما وضع سوريا قائم على شخص واحد اسمه أحمد الشرع الذي لا يملك سلطة كاملة مطلقة على الفصائل المنتشرة على الأرض والذي في حال غيابه وسقوطه لسبب ما تعود سوريا إلى الاقتتال الداخلي وتدفع الأقليات الثمن من وجودها وممتلكاتها وأوضاعها.
ان مصير الأقليات يرتكز أولاً إلى ضمانات دولية وإلى تدخلات وضغوط على النظام الجديد في دمشق لـ:
فتح خطوط حوار ونقاش مع الأقليات وتطمينهم والتعهّد بحمايتهم وضمان سلامتهم وحقوقهم.
وضع دستور جديد يراعي وضع سوريا التاريخي الجغرافي المجتمعي السياسي الطائفي. سوريا لا تحتمل نظامًا متطرفًا استبداديًا تحت رايه الإسلام بعدما كان نظامًا استبداديًا تحت راية البعث (والعلمانية). سوريا بحاجة إلى نظام يأخذ في الاعتبار تعددية المجتمع السوري ويُبقي على وحدة سوريا. نظامٌ يغيّر داخل حدود سوريا ولا يغيّر حدود سوريا.
فإذا لم يسلك نظام الشرع هذا الاتجاه، تكون سوريا أمام خطر “التقسيم” الفعلي على أساس دويلات طائفية أثنية وموضع تقاسم إقليمي بين دول الجوار لا سيما تركيا وإسرائيل… وتكون سوريا أمام السيناريو الليبي “أي حرب داخلية مفتوحة في ظل صراع مصالح دولية وإقليمية وفي الواقع، يحتدم صراع القوى الإقليمية والدولية في الساحة السورية في مرحلة ما بعد سقوط نظام بشار الأسد. وفي طليعة هذه القوى، تركيا التي تسعى إلى استغلال التغييرات الحاصلة في سوريا لتعزيز حضورها العسكري والاقتصادي والسياسي هناك مع إسرائيل التي ترى في سياسات أنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها ومصالحها وخططها في الجنوب السوري في وقت تكتفي واشنطن حاليًا بإدارة التنافس والصراع بين حليفتيها تركيا وإسرائيل ومنع أي منهما من الهيمنة الكاملة على الساحة السورية والتفرّد بقرارها. ولكن إدارة ترامب تظهر انحيازًا إلى جانب إسرائيل أكثر ما يشجّع حكومة نتنياهو على مواصلة استراتيجية تدمير الجيش السوري وتفتيت سوريا جغرافيًا وسياسيًا وتقاسم النفوذ فيها.