الأخبار: ندى أيوب-
في الاستعراض السنوي للاحتياجات الإنسانية المتوقّعة في لبنان عام 2024، قدّرت وكالات الأمم المتحدة والمنظمات العاملة معها أنّها ستحتاج إلى مليارين و700 مليون دولار لتمويل عمليات الاستجابة. إلا أنّه حتى أواخر آذار الفائت لم ترصد الجهات المانحة للبنان أكثر من 240 مليون دولار، تغطّي 10% فقط من حجم الاحتياجات بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
يحيل ذلك، إلى فضيحة المليار يورو التي أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مطلع أيار أن الاتحاد الأوروبي سيقدّمها للبنان على أربع سنوات، في وقت يدرك الاتحاد أن حجم الاحتياجات لهذا العام وحدَه يتخطى الملياري دولار. يأتي نقص التمويل غير المسبوق هذا، ليزيد الواقع تعقيداً بعد عام 2023 الذي شهد تراجعاً قياسياً على مستوى الاستجابة، بعدما رصد المانحون للبنان 700 مليون دولار، من أصل مجمل الاحتياجات التي قُدّرت بـ 3 مليارات و600 مليون. وفيما تحلّ الولايات المتحدة في مقدّم الدول التي قلّصت تمويلها للبنان، تُظهر الأرقام تصدّرها بين الجهات الداعمة لأوكرانيا منذ نشوب الحرب الروسية الأوكرانية، وحالياً للعدو الإسرائيلي في حربه على غزة. ويأكل الدعم الحربي والإغاثي الأميركي اللامحدود لكل من أوكرانيا وإسرائيل من حصّة 12 دولة تعاني أزمات اقتصادية، ولا تصل نسبة تمويل الاحتياجات فيها عبر وكالات الأمم المتحدة إلى 50%، من بينها لبنان. وبمعزل عن الأسباب الفعلية لتراجع التمويل الدولي والعربي لحاجات لبنان، ومن بينها إيواء النازحين السوريين، فان واقع المواجهة القائمة اليوم يتجاوز الحاجة إلى تمويل إعادتهم إلى بلادهم، إلى نقاش حول انعكاسات عدم توفير متطلبات الإيواء التي تتجاوز قدرة الحكومة والشعب اللبناني على حد سواء. والخطير في الأمر ان الجهات والمنظمات والجمعيات العاملة في حقل الإغاثة والإيواء التي تخشى على حصتها من التمويل، وبدل ان تهتم بتوجيه ما هو متوفر لديها الى قنوات الانفاق الصحيحة والضغط على المانحين لزيادة الدعم، تستخدم الصراعات والتوترات الامنية بطريقة مريبة، كالقول إن شرط الامن في مجتمعات وتجمعات النازحين رهن توفير التمويل لهم، وكأن السوريين عبارة عن مجرمين وُضعوا في سجون ترعاها الدول الكبرى، واذا لم تُؤمن للسجانين كلفة إيواء سجنائهم، ستحتل الفوضى المشهد.
أسباب مختلفة تفسّر أزمة تراجع التمويل لعمليات الاستجابة للاحتياجات الإنسانية والتنموية عالمياً، من بينها تداعيات «كورونا» والأزمات الاقتصادية لبعض الدول الغربية. غير أن الحرب الروسية – الأوكرانية أدّت إلى استفحال الأزمة، مع نزوح أعداد كبيرة من الأوكرانيين داخل أوكرانيا وإلى بلدان مجاورة، مجتذبين اهتمام العالم وأموال وكالاته وهيئاته وحكوماته لتغيث «اللاجئ الأبيض». وقفز التمويل لأوكرانيا التي كانت تحصل بين عامَي 2016 و2021 على 250 مليون دولار سنوياً مساعدات من هيئات الأمم المتحدة، إلى 4 مليارات و600 مليون دولار عام 2022، إضافة إلى تمويل المجهود الحربي الذي أنهك الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة (خصّص الكونغرس حتى تشرين الثاني 2023، حوالي 113 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا عسكرياً، وفق صحيفة «واشنطن بوست»).
وعليه، أخذت الفجوة بالاتساع بين احتياجات التمويل في معظم هيئات الأمم المتحدة والأموال المقدّمة من المانحين. ولم تثمر نداءات الأمم المتحدة المتكررة للمانحين إلا عن جولات متتالية من التخفيضات، ما ترك تداعيات وصفتها الأمم المتحدة نفسها بـ«الخطيرة على المحتاجين في 12 دولة تعاني من نقصٍ مزمن في التمويل»، من بينها لبنان الذي تراجع حجم التمويل المرصود له بـ 600 مليون دولار بين عامي 2022 و2023، من مليار و300 مليون دولار لبتّ 35% من احتياجات عام 2022، إلى 700 مليون دولار غطّت 26% من احتياجات عام 2023.
بعدها، دخل التمويل مرحلة أكثر تأزماً مع انطلاق معركة «طوفان الأقصى»، وفتح واشنطن جسر دعمٍ لا محدود لإسرائيل، على صعيد الأسلحة والأموال والمساعدات الإغاثية. ورغم تراجع اهتمام الكونغرس بتمويل الحليف الأوكراني إلى أقل مستوى، إلا أنّ ذلك لا يغيّر من واقع أن إسرائيل وأوكرانيا تقضمان من حصّة التمويل الأميركي لبقية الدولة، وهو عادة التمويل الأكبر حجماً (إلى جانب الاتحاد الأوروبي) الذي تتلقاه هيئات الأمم المتحدة المعنية بالاستجابة للاحتياجات الإنسانية والتنموية.
الجهات المانحة تغطي 10% من احتياجات لبنان: 240 مليون دولار من 2,3 مليار
على صعيد لبنان، تُرجم ذلك، بتراجع التمويل الأميركي لبرامج المساعدة والدعم في لبنان من 243 مليون دولار عام 2023 إلى 23 مليون دولار حتى نهاية آذار 2024، أي من تغطية أميركية لـ 36.2% من احتياجات لبنان الإنسانية في عام 2023 إلى تغطية 9.7% فقط من احتياجات عام 2024. كما تراجع ما رصده جميع المانحين عبر الأمم المتحدة للبنان من 700 مليون دولار في عام 2023 إلى 240 مليون دولار في عام 2024 تغطي 10% فقط من الاحتياجات. وفيما تصدّرت المفوضية الأوروبية لائحة المموّلين لهذا العام (88 مليون دولار تغطي 36.7%)، تلتها الحكومة الألمانية (34 مليوناً، 14.2%)، حلّت الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة (23 مليوناً، 9.7%) بخلاف غالبية السنوات السابقة حين كانت تتصدّر لائحة مموّلي لبنان.
في لبنان المشهد مركّب. فإلى جانب العوامل المتّصلة بالمجهود العسكري في أوكرانيا وإسرائيل، تحضر الاعتبارات السياسية التي تدفع الأميركيين إلى تقليص تمويلهم. وفي السياق عينه، تتراجع مساعدات الاتحاد الأوروبي كواحدٍ من سبل الضغط الاقتصادي داخلياً. وما إحجام المانحين عن تخصيص تمويل لإغاثة النازحين بفعل الحرب الدائرة على الجبهة الجنوبية للبنان، إلا دليل على استخدام المساعدات الإنسانية أداة ابتزاز سياسية للحكومة اللبنانية وللبيئة الحاضنة للمقاومة.
الإحجام عن تمويل إغاثة نازحي الجنوب دليل على استخدام المساعدات الإنسانية أداة ابتزاز سياسية
إلا أن الأخطر في تراجع التمويل هو ما تخوّف به المنظمات الأممية من توترات أمنية في كل المناطق التي ينتشر فيها النازحون السوريون في لبنان، في وقت يشكل ملف النزوح السوري قضية إشكالية في هذا البلد الذي يمر بأزمة اقتصادية ومالية منذ أربع سنوات، وتزداد مشاعر التوتر والعنصرية ضد النازحين وتحميلهم مسؤولية مفاقمة تداعيات الانهيار. ففي دراسة تعدّها منظمة الـ«اليونيسف»، اطّلعت عليها «الأخبار»، حول المخاطر التي ستترتب عن نقص التمويل المخصص لقطاع المياه في مخيمات النزوح السورية مثلاً، ومع تراجع تمويل حصّة المياه للنازح من 20 ليتراً إلى 12 ليتراً يومياً، وتراجع الإنفاق على مشاريع الصرف الصحي ومعالجة المياه من 70% إلى 40%، تتوقع «اليونيسف» ازدياداً في عدد نقاط «التوتر العالي» من 25 إلى 112 نقطة، وتراجع مستوى «التوتر المتوسط» من 158 إلى 142 نقطة، ومستوى «التوتر المنخفض» من 166 إلى 95 نقطة. وتتركز نقاط «التوتر العالي»، وفق اليونيسيف، في المناطق حيث الثقل الأكبر للنازحين السوريين في عكار ووادي خالد ومناطق البقاع الغربي والأوسط والشمالي، كما حدث أخيراً في منطقة عرسال مع تحميل النازحين مسؤولية تلوث المياه الذي أدى إلى إصابات بأمراض وأوبئة داخل المدينة وفي مخيمات النازحين فيها. علماً أن المجتمعات المضيفة في هذه المناطق هي بين الأكثر هشاشة وفقراً، ما يجعل منها بيئة خصبة للتوترات التي تتوقع اليونيسف أن تتمظهر بمستويات مختلفة، بين النازحين السوريين والدولة اللبنانية، وبينهم وبين المجتمعات المضيفة، وبينهم وبين المنظمات، وفي ما بينهم، ما يعني أنّ لبنان قد يكون أمام مستوى جديد من الانفلات الأمني بسبب شح التمويل الدولي، وسط إدراكٍ تام من المانحين لخطورة نقص التمويل، سواء أكان على صعيد النازحين السوريين المعتمدين على المساعدات الأممية، والذين وُصفت أوضاعهم العام الفائت بـ«السيئة» إنسانياً، أم على صعيد استقرار لبنان.
الأمن الغذائي يستحوذ على التمويل
تشير الأرقام بشكل لافت إلى استحواذ الأمن الغذائي على أكثر من 40% من حجم التمويل المخصص للبنان في السنوات الأخيرة. ففيما كان يستحوذ على 0.3% من التمويل عام 2016، وعلى 0.2% عام 2017، قفز إلى 7% عامي 2018 و2019، و9% عام 2020. وسجّل مستوى قياسياً بلغ 36.6% عام 2021، و44% عام 2022، و48.4% عام 2023، و40% في الربع الأول من عام 2024.
المستشار في قضايا الفقر والتنمية الدكتور أديب نعمة يقرأ في هذه الأرقام «انعكاساً لمستوى حرمانٍ مُرتفع بات يؤثّر على الغذاء، وسط ارتفاع معدلات تضخّم أسعار المواد الغذائية بنسبٍ أعلى من تضخّم أسعار المواد الأخرى، ما يزيد العبء على الفقراء». ويوضح أنّ «لبنان لم يعد على قائمة الدولة المُحتاجة إلى مساعدات إغاثية إنما تنموية، وكان من البلدان ذات فئات الدخل الوسطى العليا، إلى أن بدأ توافد اللاجئين السوريين عام 2012، فأخذت المساعدات الإغاثية بالتزايد، سيّما بعد انهيار 2019 وانفجار مرفأ بيروت في عام 2020».
على الصعيد العالمي، يلفت نعمة إلى تحول في نمط المساعدات، «من المفهوم السابق القائم على تقديم الدول الغنية مساعدات تنموية لقطاعاتٍ في الدول الفقيرة تساعد على نهوضها، إلى مفهوم المساعدات الإغاثية». يُضاف إليه تحوّل آخر، على صعيد «ارتفاع حجم التمويل المشروط والمُحدد بوجهة إنفاق معيّنة من قبل المانحين، ما أضعف تدخل الأمم المتحدة في توجيه التمويل». كما أنّ «المانحين أصبحوا يعتبرون المُساعدات العسكرية لأجهزة الأمن والجيش من ضمن حزم المساعدات التي تُقدّم للبلدان المعنية».
تقليص موظفين ومشاريع
في أروقة وكالات الأمم المتحدة في لبنان، والمنظمات الدولية والمحلية العاملة معها، يدور همس منذ 7 تشرين الثاني الفائت حول مستويات التمويل في عام 2024. وتفيد مصادر معنية بأنّ «الدول المانحة مرّرت بطرق غير مباشرة أنّها غير قادرة على تمويل المشاريع في لبنان كما في السابق»، وأن «بعض المموّلين اشترطوا على المنظمات تغطية أكثر من قطاعٍ بالمبلغ عينه». وقد بدأت تلوح آثار ذلك على صعيد عمل المنظمات. فـ«جزءٌ منها سيذهب حكماً إلى تقليص الموظفين، وبعضها يدرس تقليص الرواتب. فيما الجميع يُفاضل بين المشاريع التي سيوصل تنفيذها، وتلك التي ستُلغى أو تتقلّص».
وقف تمويل جمعيات دانت الحرب على غزة
أوقفت ألمانيا وسويسرا تمويل عددٍ من الجمعيات العربية – من بينها جمعيات فلسطينية – على خلفية خطابها السياسي، الذي اعتبرته الدولتان أنّه غير محايد ويدعم الفلسطينيين في الحرب الدائرة في غزّة. كما تلقّت جمعيات أخرى إنذارات حول ما اعتبره المانحون «خرقاً لقوانين الحياد».
السعودية تغيب
حلّت السعودية عام 2023 في المرتبة السادسة بين الدول المانحة للبنان، بـ28 مليون دولار فقط، فيما غابت من بين المانحين العشرة الأوائل عام 2024.