لم يكن القرار الحكومي الأخير بالسماح بتسجيل الطلاب السوريين في المدارس والمعاهد الرسمية، حتى من دون أوراق ثبوتية أو إقامة قانونية، خطوةً إدارية عادية. فالقرار الذي أقرّته حكومة نواف سلام يندرج في سياق متراكم من السياسات المتساهلة في ملف النزوح السوري، ويشكّل عمليًا ترجمة واضحة لمفهوم “التوطين المقنّع” الذي حذّر منه التيار الوطني الحرّ منذ أكثر من عقد.
منذ اندلاع الأزمة السورية، تمسّك التيار الوطني الحرّ بموقف واضح: ضرورة الفصل بين البعد الإنساني والبعد الوطني للملف، ووجوب تنظيم عودة النازحين تدريجيًا إلى بلادهم. في المقابل، تبنّت قوى أخرى خطابًا متناقضًا — تعاطفٌ إعلامي واستثمارٌ سياسي ومالي في الوقت نفسه — تحت شعار “الواجب الإنساني” أو “الالتزامات الدولية”.
لكنّ المواقف تبدّلت اليوم: القوى التي اتهمت التيار بالتشدّد أو الشعبوية، صوّتت داخل الحكومة نفسها لصالح قرارٍ يكرّس الاندماج الرسمي للنازحين في المؤسسات اللبنانية، بدءًا من المدرسة الرسمية، من دون أي رقابة قانونية أو ضبط إداري.
قرار وزارة التربية، الذي سمح بتسجيل الطلاب السوريين بلا أوراق ثبوتية، يشكّل سابقة خطيرة في التعامل مع ملف النزوح. فالمدرسة الرسمية هي إحدى ركائز الهوية الوطنية، وإدخال فئات غير شرعية إلى هذا النظام من دون معايير واضحة، يعني عمليًا منحهم اعترافًا قانونيًا غير مباشر بالإقامة الدائمة.
ومن هنا، لا يُستبعد أن تتبعه خطوات أخرى أكثر عمقًا:
الاعتراف بالشهادات الصادرة عن طلاب بلا إقامة،
توسيع برامج الدعم التعليمي والاجتماعي والصحي لتشملهم بشكل دائم،
وربما لاحقًا منحهم وضعًا قانونيًا خاصًا بذريعة “الإنسانية” و”الاستقرار”.
حين وقف الرئيس ميشال عون على منبر الأمم المتحدة وأطلق “اللاءات الثلاث” – لا للتوطين، لا للدمج، لا لاستمرار النزوح – اعتُبر الموقف حينها تصعيديًا أو معاديًا للمجتمع الدولي. لكنّ ما نراه اليوم يثبت أنّ تلك اللاءات كانت رؤية استباقية لما نعيشه الآن.
وما بين موقف الرئيس العماد ميشال عون المبدئي ، ومواقف التيار التي تلت عبر الوزير جبران باسيل وحملته الشهيرة #محتلين_بتياب_نازحين، يتبيّن كيف تحوّلت التحذيرات إلى واقع ملموس: تزايد الجرائم والحوادث الأمنية، تغيّر البنية الاجتماعية في بعض المناطق، وتحول لبنان إلى منطقة استقرار بديلة لملايين السوريين.
حين أطلق التيار الوطني الحرّ حملته التحذيرية تحت عنوان #محتلين_بتياب_نازحين، قوبل الموقف بسيلٍ من الانتقادات من عدد من القوى السياسية ووسائل الإعلام التي رأت فيه مبالغة أو خطابًا تعبويًا. لكنّ ما جرى لاحقًا أثبت أن ما اعتُبر حينها خطابًا تحذيريًا أصبح توصيفًا دقيقًا لواقعٍ يفرض نفسه اليوم.
فالمفارقة أنّ القوى نفسها التي استنكرت الخطاب التحذيري للتيار، عادت بعد سنوات لتتبنّى المضمون ذاته، مستخدمةً العبارات نفسها تقريبًا، بعدما تفاقمت الأزمات الأمنية والاجتماعية الناتجة عن غياب أي سياسة جدّية تجاه النزوح. لقد تحوّل الاستخفاف إلى اعتراف، والصمت إلى تبرير، فيما بقي الثابت الوحيد هو موقف التيار الذي حذّر من البداية من هذا المسار، عندما كان الجميع يفضّل الإنكار أو المسايرة.
ما أقرّته الحكومة اليوم ليس مجرّد قرار تربوي، بل تحوّل في هوية الدولة. فخلف عنوان التعليم، تُفتح أبواب الاندماج، وباسم الإنسانية، تُشرّع الإقامة، وباسم الواقعية، يُدفَن مبدأ العودة.
إنها حكومة التوطين المقنّع، التي بموافقتها على دمج الطلاب السوريين بلا ضوابط، تُعلن بداية مرحلة جديدة، ستُسجَّل لاحقًا على أنها الخطوة الأولى نحو إلغاء الحدود بين النزوح والتوطين.
لبنان اليوم أمام مفترق وجودي. إما أن يُعيد صياغة مقاربته لملف النزوح على أساس السيادة والمصلحة الوطنية، أو أن يستسلم تدريجيًا لضغوط الخارج وواقع الأمر المفروض داخليًا.
فالسكوت عن قرار اليوم يعني القبول بسلسلة قرارات غدًا، ومن التعليم إلى الإقامة، ومن الإقامة إلى الحقوق المدنية، لن يكون الفصل طويلًا بين “النازح” و”المواطن”.