في جمهورية لبنان العجيبة، لا تحتاج إلى دستور ولا إل جيش ولا حتى إلى برنامج سياسي. كلّ ما تحتاجه هو ادعاء بدعم خارجي، رقم واتساب، وقليل من الجرأة. عندها، تُفتح لك الأبواب، تُرفع عنك الشبهات، وتتحوّل فجأة إلى «صديق موثوق» لكبار حماة السيادة. هكذا وُلدت جمهورية أبو عمر، الدولة التي لا علم لها ولا نشيد، لكن لها نفوذ يفوق نفوذ بعض الأحزاب السيادية نفسها.

قصّة «أبو عمر» ليست مجرّد فضيحة عابرة، بل مرآة فاضحة للعقل السياسي اللبناني: عقل يرفع شعار السيادة صباحًا، ويبحث مساءً عن “واسطة إقليمية” تعيد تعويمه. رجل من وادي خالد، بلا صفة رسمية ولا موقع ولا حتى سيرة موثوقة، نجح في الدخول إلى دوائر سياسية وإعلامية لأنّ اسمه بدأ بكلمة «أبو»، وترافق مع ادّعاء الانتماء إلى الحكم في المملكة العربية السعودية. في لبنان، هذا وحده كافٍ لإسقاط كلّ معايير التدقيق.

لكنّ الذروة الحقيقية للكوميديا السوداء لم تأتِ مع انكشاف الخدعة، بل مع ردود الفعل. وهنا تتقدّم القوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع إلى المسرح، لا بوصفهم ضحايا خدعة، بل أبطالًا في مسرحية الإنكار. فجأة، وبعد أن تكشّفت القصّة، صدر البيان السحري: نحن لا نعرف أبو عمر. لا صور، لا لقاءات، لا وسطاء، لا اتّصالات. رجل مرّ كأنّه شبح… أو كأنّه لم يكن «مفيدًا» بما يكفي بعد انكشاف أمره.

وهنا بيت القصيد. السيادة، كما يبدو، ليست مبدأ ثابتًا بل ظرفيًا. تُستحضَر عندما يخدم الخطاب، وتُدفَن فورًا عندما يصبح الاعتراف مكلفًا. فكيف لحزب يُنصّب نفسه حارسًا للسيادة أن يقع في فخّ شخصية وهمية فقط لأنّها ادّعت قربها من دولة خارجية؟ وكيف لرئيس حزب يُحاضر يوميًا عن الاستقلال أن يتعامل مع «أمير افتراضي» قبل التأكّد من هوّيته، ثمّ يتبرّأ منه كأنّه رسالة غير مقروءة؟

المفارقة المضحكة–المبكية أنّ «أبو عمر» لم يحتج إلى نفوذ حقيقي، بل إلى عطش سياسي لبناني مزمن للاعتراف الخارجي. بعض السياسيين لا يشعرون بوجودهم إلا إذا ظنّوا أنّ هناك «رضى إقليميًا» عنهم. لذلك، لا عجب أنّ السيادة في لبنان تُفحَص أحيانًا بلكنة المتّصل، لا بمضمون موقفه.

أمّا محاولات التبرّؤ الجماعي، فهي الفصل الأخير من المهزلة. الجميع فجأة لم يعرفه، لم يلتقه، لم يسمع به. وكأنّ «أبو عمر» ظهر من العدم ثمّ عاد إليه، تاركًا خلفه سياسيين يبدّلون أقوالهم أسرع من تبديل شعاراتهم. لا اعتذار، لا مراجعة، لا مساءلة. فقط بيانات باردة تحاول إنقاذ ما تبقّى من صورة مهترئة.
 
ولا تكتمل مسرحية «أبو عمر» من دون الكورس الإعلامي الذي أدّى دوره بامتياز: صمتٌ مدروس، تذاكٍ انتقائي، وقفزٌ جماعي فوق الوقائع. الإعلام نفسه الذي يشنّ حملات تدقيق على كلّ تفصيل يخصّ خصومه، أصيب فجأة بعمى مهني مؤقَّت عندما تعلّق الأمر بحلفائه. لا تحقيقات، لا أسئلة، لا أرشيف يُفتح، ولا مراسل “شجاع” يتذكّر فجأة أنّه كان قد أجرى لقاءً أو نشر صورة أو روّج لوسيط «نافذ». بعض المنابر تصرّفت وكأنّ الفضيحة خبر طقس عابر، والبعض الآخر تعامل معها كأنّها إشاعة لا تستحقّ الإزعاج، فيما اكتفى الباقون بإعادة نشر بيانات النفي وكأنّها نصوص مقدَّسة لا تُناقَش. هكذا، تحوّل الإعلام من سلطة رقابية إلى شركة تنظيف سمعة، تمسح آثار الخدعة وتلمّع الإنكار، وتساعد على دفن السؤال الأهمّ: كيف ولماذا فُتحت المنصات والهواتف والأبواب أمام شخص مجهول فقط لأنّه ادّعى صفة خارجية؟ في جمهورية «أبو عمر»، لم يكن السياسي وحده ساذجًا أو متواطئًا؛ الإعلام كان شريكًا كاملاً في إدارة الذاكرة القصيرة.

في الخلاصة، ليست فضيحة «أبو عمر» قصّة رجل محتال بقدر ما هي قصة نظام سياسي قابل للخداع لأنّه لا يريد أن يرى. رجل واحد بلا سلطة حقيقية نجح في كشف زيف خطابات كاملة عن السيادة والاستقلال. وربّما هذا هو الدرس الأهمّ:
في لبنان، السيادة لا تُخترَق بالدبابات… بل بمكالمة هاتفية.

Continue Reading

مع تسارع الأيام الأخيرة للعام 2025، زادت السلطة من تسريع خطواتها الرامية إلى توجيه رسائل إيجابية في اتجاه المجتمع الدولي على أنها "أدت واجبها"، تحديداً في الملف المالي. أما على…

تسأل أوساط سياسية عن موقف أركان الدولة فيما لم ثبُتَ في التحقيقات أن لـ"الأمير" الوهمي "أبو عمر" يد في عملية تشكيل الحكومة بعد اتصالاته بعددٍ من نواب الشمال لتغيير موقفهم…

أفاد مراسل الجديد، بالعثور على جدة "إ.ع" وحفيدتها "م.أ" متوفيتين داخل منزلهما في مخيم البداوي، فيما أُصيبت كل من "ت.ن" و"ل.أ" ونُقلتا إلى مستشفيات مختلفة لتلقي العلاج.وأفاد مراسل الجديد، أيضاً…

عُلِم أن وزير الداخلية والبلديات أحمد الحجار سيُبلِغ الحكومة في أول جلسة لها مطلع العام بأنه لن يستطع إجراء الانتخابات النيابية في أيار المقبل إذا لم تحسُم الحكومة قانون الانتخاب…