أنطوان الأسمر
تواجه إيران لحظة دقيقة من تاريخها السياسي تشبه إلى حدّ بعيد “الخريف الهادئ” الذي يسبق التحوّل العميق. فالنظام الذي اعتاد التقدّم على قاعدة الصراع والممانعة، يجد نفسه أمام معادلة جديدة: الحفاظ على شرعيته الداخلية في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وموازنة نفوذه الإقليمي في بيئة متغيّرة لم تعد تحتمل المغامرة. وفي خلفية هذا التحوّل، يطلّ لبنان ساحة اختبار نموذجية لقدرة طهران على إعادة إنتاج دورها بأدوات جديدة.
على امتداد ما يزيد عن أربعة عقود، شكّل لبنان الامتداد الحيوي للمشروع الإيراني في المشرق، سواء عبر النفوذ السياسي أو من خلال الدور العسكري لـ“حزب الله”. لكن التحولات التي تشهدها إيران من الانقسام داخل النخبة الحاكمة إلى المراجعة القسرية للخيارات الإقليمية، تعيد رسم حدود هذا النفوذ، وتفرض مقاربة مختلفة لما كان يُعرف سابقاً بسياسة “التمدد الثوري”.
يتمثّل التحوّل الأبرز في طهران في الانتقال من منطق المواجهة المفتوحة إلى منطق إدارة النفوذ. فبعد سنوات من العقوبات والتضييق، باتت الأولوية للإبقاء على تماسك الداخل، ولو على حساب تقليص هامش المغامرة في الخارج. لا يعني هذا التحوّل تبدّلًا في العقيدة، بل ترجمة عملية لفكرة “التكيّف الاستراتيجي” التي بدأت تتسلل إلى مراكز القرار الإيراني، خصوصاً في ظل جيل سياسي – اقتصادي جديد يرى أن الصمود لا يكون بالشعارات، بل بإعادة ترتيب موارد القوة.
في هذا الإطار، يصبح لبنان مؤشراً بالغ الدلالة. فـ“حزب الله” الذي يُعدّ أكثر أدوات طهران نفوذاً في المنطقة، يعيد تموضعه ضمن معادلة مركّبة تجمع بين الحفاظ على مقومات عدائه لإسرائيل، وبين تبريد الجبهة الداخلية تجنّباً لانفجار اقتصادي أو اجتماعي يهدد قواعده. فالحزب بات مضطراً إلى التكيّف مع واقع إيراني أكثر تقشفاً، ومع بيئة لبنانية أكثر هشاشة، مما يدفعه تدريجياً نحو خيارات دفاعية أكثر منها هجومية.
اقتصادياً، يتجلّى انعكاس الخريف الإيراني في محدودية التمويل الذي يمكن أن توفره طهران لحلفائها. فالأزمة المالية العميقة في الداخل الإيراني، وتراجع عائدات النفط بفعل العقوبات، أجبرت القيادة على إعادة تقييم كلفة الانخراط الخارجي. لذا، يميل النفوذ الإيراني في لبنان إلى اتخاذ شكل “اقتصاد نفوذ” قائم على الشراكات المحلية، وتوسيع الشبكات المدنية والتجارية كأداة لاستمرار الحضور من دون استنزاف مباشر للموارد الإيرانية. هذه المقاربة الجديدة تمنح الحزب قدرة أكبر على المناورة داخلياً، لكنها في الوقت نفسه تقلّص هامش الدعم الخارجي التقليدي الذي اعتمد عليه طويلاً.
أما على المستوى الإقليمي، فإيران تتجه نحو سياسة الانفتاح المحسوب شرقاً، عبر تعميق شراكاتها مع الصين وروسيا، في مقابل خفض مستوى الاحتكاك المباشر مع الغرب. هذا التموضع ينعكس تلقائياً على خطابها في المنطقة، إذ تسعى إلى تثبيت نفوذها عبر تفاهمات مصلحية بدلاً من المواجهة المفتوحة. وفي لبنان، يظهر أثر هذا التحوّل في ميل الحزب إلى خطاب أكثر عقلانية وتكتيكات أكثر هدوءاً، مع الحرص على تجنّب أي تصعيد قد يضع طهران في موقع الإحراج أو يعرّض مصالحها الجديدة للاهتزاز.
إجمالاً، يبدو المشهد الإيراني أشبه بمرحلة انتقالية في مسار المشروع الكبير. هو ليس انكفاءً كاملاً ولا تمدداً كما في السابق، بل إعادة توازن دقيقة بين الداخل والخارج، بين الاقتصاد والعقيدة، وبين البقاء في السلطة والحفاظ على النفوذ. لبنان في هذا المشهد ليس تفصيلاً جغرافياً، بل مرآة سياسية واختبار واقعي لقدرة إيران على التكيّف مع زمن جديد تتغيّر فيه مفاهيم القوة والردع والنفوذ.
وفي الخريطة الجديدة للمحور الإيراني – الصيني، يكتسب لبنان بعداً إضافياً بوصفه منصة بحرية واقتصادية غير مباشرة تربط بين المشرق والبحر المتوسط ضمن مسار “الحزام والطريق”. فطهران، التي تراهن على دورها كممر بري بين آسيا والبحر، تنظر إلى النفوذ المستقر في لبنان كعنصر مكمّل لشراكتها الاستراتيجية مع بيجينغ. من هنا، يندمج البعد الأيديولوجي بالمصلحة الاقتصادية في مشروع واحد هدفه البقاء لا التوسع، والتأثير الهادئ لا المواجهة. وفي هذا المعنى، يصبح لبنان مرآة للعقل الجديد في طهران، عقل يسعى إلى تثبيت الموقع لا استعراض القوة، وإلى ضمان الاستمرار وسط عاصفة إقليمية تتغيّر موازينها بسرعة غير مسبوقة.
لبنان في التحوّلات الإيرانية: مختبر النفوذ الجديد والعقيدة الهادئة!
