راجانا حمية –
منذ نحو ستة أشهر، عادت أزمة الدواء لتطلّ برأسها من جديد، مع استمرار فقدان أدوية أساسية من السوق «الشرعية»، وظهورها في السوق الموازية.
عشرات الأصناف باتت اليوم خارج متناول المرضى، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما عاشه اللبنانيون في ذروة الانهيار المالي، حين تحوّلت بعض الأدوية إلى «عملة نادرة»، ما فتح الباب واسعاً أمام انتشار الأدوية المزوّرة والمهرّبة.
وتنذر هذه المؤشرات بتفاقم أزمة الدواء، لا سيّما أن الأصناف المفقودة تشمل أدوية أساسية تُستخدم لعلاج أمراض مزمنة كالضغط والسكري والصرع والباركينسون وغيرها، ومن بينها، مثلاً، «Tegretol» و»Depakine Chrono» لمرضى الصرع، و»Diltiazem» لمرضى الضغط، و»Miacalcic» لترقق العظام، ولاصقات «Nitroderm» المخصصة لحالات ارتفاع الضغط الحاد، و»Mimpara» الذي يُستخدم لعلاج الغدد ومشكلات الكلى، خصوصاً لدى مرضى غسيل الكلى، إلى جانب «Gravol» لمعالجة الدوخة و»Nootropil» لمرضى الألزهايمر.
وبحسب عدد من الصيادلة، فإن بعض هذه الأدوية لا بدائل متوافرة لها، ما يضع المرضى أمام خيارين: إما اللجوء إلى السوق الموازية التي تفتقر إلى معايير الرقابة، أو شراء الدواء من الخارج بكلفة باهظة.
ويُفرّق الصيادلة بين نوعين من الانقطاع: أدوية مفقودة منذ أشهر ولم تصل حتى الآن، وأخرى تصل على دفعات محدودة، إذ «تأتي شحنة تغطي السوق لشهر واحد، ثم ينقطع الدواء مجدداً لمدّة شهرين أو ثلاثة، وقد تطول مدة الانقطاع لتصل إلى ستة أشهر».
وما يزيد الطين بلّة، هو التهافت الذي يرافق وصول الشحنات، سواء من المرضى أو حتى من الصيادلة أنفسهم. ففي محاولة لتأمين الدواء لمرضاهم، يعمد بعض الصيادلة إلى طلب كميات مضاعفة من المستودعات خشية انقطاعه مجدداً. كذلك يلجأ المرضى، خصوصاً من يعانون أمراضاً مزمنة، إلى التخزين تحسباً للانقطاع المتكرر. وهذا ما يُفاقم الأزمة، إذ يُسرّع في نفاد الكميات القليلة المتوافرة ويُعمّق الاختلال في التوزيع، فيحصل بعض المرضى على كميات تفوق حاجتهم، فيما يُحرم آخرون من العلاج كلياً.
يُضاف إلى ما سبق أنّ أزمة الأدوية تتفاقم أيضاً بسبب تقلّص عدد الشركات المستورِدة لبعض الأصناف، إذ كانت بعض الأدوية تُستورد سابقاً عبر أكثر من وكيل، ما كان يؤمّن وفرتها في السوق، ولكنّ الظروف الراهنة أدّت إلى انحصار الاستيراد بوكيل واحد، الأمر الذي أثّر بشكل مباشر في الكميات المطروحة. في هذا السياق، يوضح أحد الصيادلة أنّ دواءً كان يُستورد من قبل ثلاث شركات، بات اليوم يأتي من مصدر واحد فقط، «وبالقطارة، وغالباً ما يكون غير متوافر».
ولتفادي الوصول إلى أزمة مشابهة لما حصل خلال سنوات الدعم، استبقت نقابة الصيادلة الأمور بالعمل على إعداد لائحة بالأدوية الأساسية المقطوعة من السوق، وتلك التي تُعدّ من مستلزمات الأمن الصحي.
وبحسب نقيب الصيادلة، جو سلوم، فإن هذه اللائحة، فور اكتمالها، ستُرفع إلى وزارة الصحة العامة لتأمين الكميات اللازمة، انطلاقاً من أنّها لا تندرج في إطار الترف، بل هي أدوية لا غنى عنها.
وفي هذا الإطار، يشير أحد الصيادلة إلى أنّ مجموعة من الصيادلة، بالتشاور مع نقابتهم، تواصلت أخيراً مع شركات استيراد الدواء للحصول على لوائح دقيقة بالأصناف المقطوعة، لا سيما تلك التي لا بدائل لها، أو التي توقفت الشركات عن استيرادها نهائياً، ومتى يمكن أن تعود إلى السوق، «لكننا حتى اللحظة لم نحصل على أي جواب».
ما أوصل الدواء إلى هذا الواقع المتدهور، رغم التصريحات الرسمية المتكررة بوجود مخزون يكفي لأشهر، هو تداخل عوامل مالية وإدارية وتسويقية، تتباين بشأنها الروايات بين الجهات المعنية. فالصيادلة، مثلاً، يشيرون إلى أن جذور الأزمة الحالية تعود إلى ممارسات الأزمة المالية الأخيرة، وتحديداً إلى مرحلة الدعم وما خلفته من تداعيات كارثية.
إذ ترفض الشركات المصنّعة اليوم التعامل مع السوق اللبناني وفق الآليات السابقة، وتصرّ على الدفع المسبق، بعدما تضررت ثقتها بشركات الاستيراد اللبنانية نتيجة تأخير مصرف لبنان في سداد مستحقاتها.
فبعض شركات الاستيراد تكبّدت خسائر فادحة عندما اضطرت إلى دفع أموال للشركات الأم من مواردها الخاصة، من دون أن تحصل لاحقاً على مستحقاتها من المركزي، ما أدى إلى فقدانها وكالات حصرية كانت تملكها. أما الشركات التي انتظرت مصرف لبنان، فدفعت ثمناً باهظاً، إذ فقدت صدقيتها أمام الشركات الأم، التي امتنعت عن إرسال الطلبيات المطلوبة.
ورغم انحسار أزمة الدعم وتغيّر آليات الاستيراد، إلا أن الثقة لم تُستعَد بالكامل. فما تزال شركات دولية كبرى تتعامل مع لبنان من منطلق «ادفع أولاً ثم خذ»، في ظل ديون مستحقة على الدولة اللبنانية لم تُسدَّد حتى اليوم.
وهذه الشروط تفرض ضغطاً إضافياً على السوق، وعلى المستوردين الذين يواجهون صعوبة في تأمين السيولة المسبقة، ما يؤدي إلى مزيد من النقص في الأدوية، ويقوّض أي محاولة لبناء منظومة صحية مستقرة.
في المقابل، تطرح نقابة مستوردي الأدوية رواية مختلفة، تنسب فيها ما يجري اليوم إلى حالة من الفوضى التي تسود سوق الدواء، والتي دخلت فيها بعض الصيدليات شريكاً مباشراً، بحسب ما يؤكده النقيب جو غريب.
ويذهب غريب إلى حد القول إن نحو ربع الصيدليات، لا سيما الكبرى منها، لجأت إلى فتح خطوط استيراد خاصة بها، بعيداً من الأطر الرسمية، ما أدى إلى دخول كميات من الأدوية غير الخاضعة للرقابة، أي عملياً المهرّبة، إلى السوق.
ورغم هذه الوقائع، يرفض غريب توصيف الوضع الحالي بالأزمة، مشدداً على أن «كل الأدوية المسجّلة متوافرة في السوق»، وما هو مفقود، بحسب رأيه، يقتصر على الأصناف غير المسجّلة رسمياً أو تلك التي باتت لها بدائل مدعومة.
ويشير في هذا الإطار إلى قرار رسمي يقضي بشطب أي دواء لم يُستورد خلال الأشهر الستة الماضية من لائحة الأدوية المسجّلة، إضافة إلى إلغاء الأدوية التي دخلت السوق ولم تستكمل ملفاتها عند استحقاق تجديدها.
وفي محاولة لتفادي أي التباس أو فراغ دوائي، أكد غريب أن نقابة المستوردين طلبت من وزارة الصحة العامة تزويدها بلائحة مفصلة تتضمّن الأدوية المسجّلة التي لم تُستورد بعد والأدوية غير المسجّلة التي يشهد السوق حاجة فعلية إليها، بهدف العمل على تأمينها بالطرق النظامية، وتجنّب المزيد من اللجوء إلى السوق غير النظامية.
من جهة أخرى، أشار غريب إلى أن وزارة الصحة تعتزم إطلاق تطبيق إلكتروني جديد مطلع الشهر الجاري، يهدف إلى تنظيم سوق الدواء وتعزيز الشفافية.
وسيتيح التطبيق لأي مواطن الدخول إليه والبحث عن الدواء المطلوب، مع الحصول على معلومات تفصيلية تشمل تاريخ دخوله إلى السوق، اسم الوكيل أو المستورد، الصيدليات التي يتوافر فيها الدواء، والسعر الرسمي المعتمد.