سوريا الغد-
في عالم السياسة الدولية، لا تكون التحركات العسكرية مجرد تموضع ميداني بل رسائل استراتيجية موجهة إلى أطراف متعددة، ومنذ 8 كانون الأول 2024، لم يشهد مطار القامشلي في شمال شرق سوريا مثل التحركات غير المعتادة للقوات الروسية، حيث تم نقل تعزيزات عسكرية ومنظومات دفاعية وتجهيزات لوجستية نوعية، وهذه التحركات لا يمكن قراءتها إلا في سياق معقد يتداخل فيه المحلي بالإقليمي والدولي.
من المطار إلى المشهد الأوسع
إن مطار القامشلي، من الناحية الجيوسياسية، ليس مجرد منشأة عسكرية؛ بل عقدة حيوية تقع على تقاطع مصالح قوى متنازعة: تركيا، الولايات المتحدة، حكومة دمشق، وقوات سوريا الديمقراطية، واختارت موسكو هذا الموقع لتعزيز وجودها العسكري في لحظة فراغ نسبي بعد التجميد الكامل لمؤسسات الدولة السورية في بعض مناطق الشمال الشرقي، خصوصاً بعد 8 ديسمبر، ونية إدارة ترامب خفض وجودها العسكري في الشمال الشرقي لسوريا.
هذه الفجوة في السلطة القانونية والإدارية كانت بالنسبة لموسكو لحظة خطرة، فمن خلال تعزيز سيطرتها في القامشلي، تحاول روسيا أن تخلق قوة ضابطة لتوازنات الشمال السوري، في وقت تشهد فيه العلاقة بين واشنطن وقسد نوعا من التراخي، وتعاني طهران من عزلة نسبية داخل المشهد الكردي.
أهداف موسكو من إعادة الانتشار
لا يمكن فهم التحرك الروسي في القامشلي بمعزل عن نوايا استراتيجية تتجاوز مجرد الانتشار العسكري، فموسكو، بخبرتها في إدارة الأزمات وملء الفراغات، تتعاطى مع هذه الخطوة كوسيلة متعددة الوظائف: ردع، تفاوض، توازن، وتحكّم، وفيما يلي أبرز الأهداف التي يمكن استخلاصها من هذا التحرك:
تثبيت النفوذ شرق الفرات:
مع انسحاب تدريجي أو إعادة تموضع القوات الأمريكية في بعض النقاط، تسعى روسيا لملء الفراغ، ليس عبر المواجهة المباشرة، بل بإظهار “شرعيتها” من خلال التنسيق مع عدد من الأطراف المحلية وتقديم خدمات أمنية واستشارية.
تطويق النفوذ التركي:
الوجود الروسي المتعاظم في القامشلي يمنح موسكو قدرة إضافية للضغط على أنقرة في ملفات مثل منبج وتل رفعت، ويُربك حسابات الجيش التركي في التعامل مع “العمق الكردي”.
تهيئة المشهد لمفاوضات لاحقة:
تعزيز النفوذ الروسي في القامشلي يمنح الكرملين أوراقا إضافية على طاولة التفاوض سواء في آستانة أو نيويورك، خصوصًا مع عودة الزخم لمسار “التسوية الشاملة”.
علاقة التحركات الروسية بتفكك مؤسسات الدولة
منذ انهيار مؤسسات الدولة في 8 كانون الأول، دخلت مناطق متعددة من شمال وشرق سوريا في حالة شلل إداري، وهذا الانسحاب المؤسسي للنظام السوري ترك فراغا حاولت قسد ملأه بإدارة محلية، إلا أنها تفتقر إلى الاعتراف الدولي، ما جعل الميدان جاهزا لتدخل فاعل “يقدّم نفسه كبديل منضبط”.
روسيا، عبر وجودها المنسق مع بقايا أجهزة الدولة، تحاول تفعيل نظام “الحوكمة اللامركزية التابع”، حيث يُبقي النظام على واجهته الاسمية بينما تدير موسكو فعليا المساحات الحيوية، القامشلي تتحول بهذا المعنى إلى نموذج أولي لحالة يمكن تعميمها.
أبعاد التحرك العسكري النوعي
من أبرز ما يلفت في التحرك الروسي هو نوعية التجهيزات:
منظومة Pantsir S1 للدفاع الجوي، التي نُصبت داخل المطار، ليست دفاعا عن قاعدة بل رسالة إلى الطائرات الإسرائيلية والأمريكية.
وصول وحدات إلكترونية مختصة في الحرب السيبرانية، يشير إلى أن روسيا لا تحضر فقط عسكريا بل رقميا أيضا، وتستعد لمعركة معلوماتية ومراقبة إقليمية.
تعزيز التفاعل مع الضباط المنشقين من النظام داخل مناطق قسد، في محاولة لاستمالة “العناصر المحلية الخبيرة” إلى الفلك الروسي.
احتمالات التصعيد والردود الدولية
رغم أن التحركات الروسية في القامشلي ليست تصعيدا مباشرا، فإنها تُقرأ في واشنطن كخطوة مقلقة، ومن المتوقع أن تُعيد هذه التحركات الجدل داخل البنتاغون حول جدوى الإبقاء على قوات محدودة في سوريا، في المقابل، ستراقب أنقرة المشهد بعين مزدوجة: خشية من تمكين قسد، ورغبة في تقليص النفوذ الإيراني، ما قد يجعلها تقبل بصفقة موضعية مع موسكو، شرط أن تحفظ مصالحها الحدودية.
التحليل لا يكتفي برصد الحركة، بل هناك ضرورة بتعميق النظر في نيات الفاعلين، وروسيا، كما تبدو في تحركاتها بالقامشلي، لا تسعى فقط للانتشار بل لإعادة كتابة قواعد النفوذ في سوريا، بين التراجع الأمريكي، وتفكك الدولة، والارتباك التركي، تفتح موسكو نافذة استراتيجية جديدة.
لكن النافذة، وإن فتحت، تبقى رهينة ميدان متغير باستمرار، حيث لا يُمنح النفوذ بل يُنتزع، وحيث يكون الصمت التكتيكي في الكرملين أبلغ من التصريحات.