سوريا الغد: في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ الأميركي، أطلق السيناتور ماركو روبيو، مدعوما بتقييم وزارة الخارجية الأميركية، تحذيرا مدويا: السلطة الانتقالية في سوريا التي خلفت نظام بشار الأسد على وشك الانهيار، في غضون أسابيع وليس أشهر.
ورغم محاولة واشنطن الظهور كمراقب حكيم للعملية، فإن فحوى التصريحات يكشف ما هو أعمق بكثير فهناك شكوك استراتيجية، وتخبط غربي في مقاربة ملف ما بعد الأسد، وخوف فعلي من تكرار سيناريو العراق 2003 أو ليبيا 2011.
لكن السؤال الحاسم الذي يجب طرحه: لماذا تنهار السلطة الانتقالية؟ وهل هذا الانهيار نتيجة عوامل داخلية فقط، أم انعكاس لعجز إقليمي ودولي عن إدارة لحظة ما بعد السقوط؟
“هشاشة تحت السيطرة” – السلطة التي بنيت على الرمال
سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 لم ينتج عنه فراغ فقط، بل ملأته قوى أمر واقع كانت حاضرة على الأرض: هيئة تحرير الشام، فصائل المعارضة، وبقايا الدولة القديمة في هيئة تكنوقراط ضعيفة، النتيجة لم تكن “سلطة انتقالية وطنية”، بل موزاييك فصائلي بأقنعة سياسية.
سيطرت هيئة تحرير الشام على الوزارات السيادية الأربعة: الدفاع، الداخلية، الخارجية، والعدل، وكل من تسلم هذه الحقائب له خلفية جهادية مباشرة أو شبه مباشرة، وهذا لا يعكس فقط اختطافا مؤسساتيا، بل يكشف كيف أصبحت السلطة الجديدة “امتدادا مقننا” لنفوذ هيئة غير معترف بها دوليا، بل مصنفة كمنظمة إرهابية في واشنطن.
روبيو ألمح بوضوح إلى ذلك حين قال: “بعض شخصيات السلطة الانتقالية لم تجتز فحص الخلفية مثل الذي تجريه الإف بي آي، ولديهم تاريخ معقّد”، وهنا بيت القصيد. كيف يمكن للولايات المتحدة أو أي طرف دولي دعم سلطة كهذه دون أن يصطدم بجدران القانون والسياسة والمصداقية؟
الانقسام الداخلي: سياسة الأسد تعيش بعده
من المفارقات أن أحد أهم أسباب هشاشة السلطة الجديدة هو “نجاح” الأسد في ترك بصمته حتى بعد سقوطه، فالمركزية السياسية التي رسمت هوية الدولة السورية كانت ضامن التنوع السوري، وماتزال تفرض نفسها عبر صعوبة رسم ملامح هوية جديدة، سلفية أو جهادية، وتفكيك الهوية يؤثر على تكوين المنطقة.
هذا الإرث لا يمكن إلغائه بقرار إداري أو مجلس وزراء انتقالي، فالسلطة الانتقالية تواجه انعدام ثقة داخليا، فمن جهة، هيمنة الهيئة تثير ذعر الأقليات؛ ومن جهة أخرى، رمزية تمثيلهم في الحكومة لا تكفي لضمان شعورهم بالأمان أو الشراكة.
حتى التعيينات “التطمينية” (مثل وزيرة الشؤون الاجتماعية “المسيحية”، أو وزير النقل “العلوي”) تبدو أقرب إلى حملة علاقات عامة منها إلى إعادة تأسيس عقد اجتماعي، فالسلطة الفعلية، كما تقول الوقائع، ليست موزعة بالتساوي بل مركّزة بيد الأغلبية السلفية التي تمثل الامتداد السياسي للفصائل الإسلامية.
الفصائلية: الفوضى تحت راية “الوطنية“
محاولة دمج الفصائل ضمن وزارة الدفاع وتشكيل “الجيش الوطني السوري” هي على الورق إنجاز، لكن على الأرض لا تزال خطوط التماس بين الفصائل قائمة، فـ 70 فصيلا اندمجوا شكليا، لكن كل فصيل يحتفظ ببنيته وولاءاته، والقيادة المركزية لا تزال مجرد عنوان، والفعالية العملياتية موزعة.
الجيش الوطني السوري بثلاثة فيالق: والجبهة الوطنية للتحرير وهيئة تحرير الشام، كلها تتموضع بمناطق نفوذ مختلفة، من أعزاز إلى إدلب إلى شمال حلب، وتنسق عبر مصالح وليس عبر هرم سلطوي موحد، والفيدرالية غير المعلنة، أو “الفيدرالية المسلحة”، هي الواقع.
أما قوات سوريا الديمقراطية، فهي الغائب الحاضر، حيث لم تنخرط، ولم يتم استيعابها، ما يعني أن خارطة سوريا لا تزال مشرذمة، وفي ضوء ذلك، يصبح حديث روبيو عن “احتمال نشوب حرب أهلية شاملة” ليس تحذيرا، بل توصيفا واقعيا للمسار إذا استمرت الحال على ما هي عليه.
الاقتصاد واللاجئون: العودة المؤجلة
واحدة من النقاط القليلة التي بدت متفائلة في خطاب روبيو هي الإشادة بنجاح السوريين في الشتات، والدعوة لخلق بيئة تعيدهم إلى الداخل للمشاركة في إعادة البناء، لكن هذا الطرح، وإن بدا إنسانيا، لا يخفي الحقيقة السياسية: لا أحد يعود إلى وطن تسيطر عليه جماعة مسلحة ذات تاريخ صدامي مع معظم الطوائف.
عودة اللاجئين مشروطة بالأمان، وهذا غير متوفر، ومشروطة بالشرعية الدولية، وهذه غير قائمة. وبإجماع داخلي، وهو غائب، لذلك، فإن ملف اللاجئين سيبقى مؤجلا إلى حين حصول تغيير جذري في موازين القوى داخل السلطة الانتقالية.
تركيا تدخل على الخط: هل نحن أمام “تسوية إقليمية” جديدة؟
زيارة رئيس الاستخبارات التركي إبراهيم قالن إلى دمشق في 20 مايو 2025 تحمل دلالات تحوّل إقليمي عميق، فالمباحثات مع الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، تناولت ملفات محورية: من قسد، إلى داعش، إلى المعابر، إلى أمن الحدود، وبعيدًا عن المجاملات الدبلوماسية، فإن هذه الزيارة تؤشر إلى تحرك تركي قلق نحو تطبيع حذر مع السلطة الانتقالية، وهو ما يُقرأ في واشنطن كرسالة مزدوجة: أنقرة تتحرك لتكون شريكا أمنيا، بينما واشنطن لا تزال في موقع الحذر.
في تحليل الموضوع السوري الداخلي هناك سؤالين: من يملك السيطرة؟ ومن يملك الشرعية؟
عمليا فإن السيطرة موزعة، والشرعية منعدمة، وهيئة تحرير الشام تملك النفوذ، لكن لا تحظى باعتراف الفصائل التي انضمت إلى السلطة لكن لم تندمج فعليا، الأقليات غير ممثلة، ولا تشعر بالأمان، وواشنطن تراقب، لكنها لا تتدخل بفعالية.
إذا لم تتغيّر هذه المعادلة، فإن تحذير روبيو لن يكون مجرد افتراض، بل واقعا فعليا: انهيار السلطة، وانزلاق سوريا مجددا إلى حرب أهلية، ولكي تنجح هذه السلطة الانتقالية، كما قال، فإن “الانخراط معها” ضروري لكن السؤال الحاسم: أي انخراط؟ وبأي شروط؟
إلى حين حصول إجابة واضحة، تبقى سوريا عالقة بين الماضي والمستقبل، وبين الفصائل والدولة، وبين الانهيار والتماسك المؤقت.