زينب حمود –
ما حدث في اليومين ليس مشهداً يمكن لذاكرة الضاحية الجنوبية أن تتخطّاه وتهضمه بسهولة. «شاهدت يوم القيامة بعيني»، هكذا تصف نور «الهرج والمرج» بعدما فجّر العدو أجهزة الإرسال «بايجر» (Pager) التي يحملها عدد كبير من عناصر حزب الله أول من أمس. «كان الناس يركضون بحالة هستيرية ويسبح شبان بدمائهم وتنقل السيارات والدراجات النارية وحتى «التوك توك» مئات المصابين، من غير أن يعلم أحد ما الذي يحصل؟».
صحيح أنّ أهالي الضاحية يملكون «مناعة» ضدّ الاعتداءات مثل خرق الطيران الإسرائيلي لجدار الصوت والغارات والتفجيرات، لكنّ المجزرة الأخيرة تشبه أفلام الخيال العلمي عندما يضرب فيروس قاتل مدينة بكاملها: جريمة غير مسبوقة لجهة ضخامتها والتفكير الشيطاني لمن هم وراءها، والجرأة في تنفيذها، والعدد الكبير من الجرحى في أكثر من منطقة، جرت مباغتتهم في سياراتهم، وعلى درّاجاتهم النّارية، وفي محالّ السوبر ماركت، وأثناء وجود أولادهم في أحضانهم…قرابة الثالثة والنصف عصر الثلاثاء، كانت ريما تتسوّق في برج البراجنة عندما سقط شاب بجوارها على الأرض، وقد بدت عليه فجأة إصابة في خاصرته.
ولم تفهم زهراء ما الذي حصل مع رجل يقف بهدوء على «الكاشيير» في سوبر ماركت قبل أن «ينفجر» بهذه الطريقة الغريبة. «علامات الصدمة التي بدت عليه تؤكد أنه ليس إرهابياً، لكن من الذي فجّره؟»، سؤال حيّر كلّ من كان في المكان. وخلافاً لردّات الفعل بعد وقوع أي انفجار في موقع معيّن، لم يعرف الناس ماذا يتوجب عليهم فعله، وإلى أي وجهة يركضون. عندما توالت «حوادث إطلاق الرصاص» و«انفجار بطاريات السيارات»، كما فسّر البعض الجريمة في بداياتها، سأل سائق الأجرة، علي، نفسه: «هل يكون هناك يوم مشؤوم كهذا حتى أصادف في كل شارع وزقاق حادثة متفرقة؟»، قبل أن يسمع من البعض أن «مُسيّرة ترمي قذائف بشكل عشوائي».
«الجنون» على أبواب المستشفيات كان يوحي بأنّ كارثة قد وقعت، من تجمهر الناس الذي أقفل الطرقات، إلى صراخ عشرات سائقي السيارات لفتح الطريق لأنه «معنا جريح»، والقيادة المتهورة، وزحمات السير الخانقة التي دفعت أحدهم إلى ترك سيارته في وسط الطريق على بعد أمتار من مستشفى الساحل وحمل الجريح على ظهره، إلى أصوات سيارات الإسعاف التي لم تتوقف لساعات. المشهد من الداخل لم يقل كارثية، يتحدّث ممرضون عن مئات الجرحى المُضرّجين بالدماء الذين دخلوا دفعة واحدة، بين إصابات في البطن، الخاصرة، الفخذ، الأطراف ولا سيما اليدين، وأكثر الإصابات جاءت في الوجه والعينين. ولكثرة الإصابات التي وقعت في دقيقة واحدة، عالجت بعض المستشفيات جرحاها في الباحات الخارجية، كما فعل كلّ من مستشفى الرسول الأعظم وبهمن.
شيئاً فشيئاً، بدأت خيوط الجريمة تتكشّف، لكن، عدم حصر الاعتداء في مكان واحد، وعدم معرفة من هم حاملو هذا الجهاز، والتخوّف من كشف الاستخبارات الإسرائيلية أسماء العناصر عبر استخدام الهواتف الذكية، كلّ ذلك عقّد عملية الاطمئنان على الأهل والأقارب والأصحاب، ودفع البعض إلى استخدام رسائل مشفّرة معهم أو الاكتفاء بسماع أصواتهم. ورغم هول الجريمة، إلا أنها لم «تكربج» أبناء الضاحية الذين هرعوا للإغاثة والمساعدة، إلى جانب متضامنين من أكثر من منطقة، وقد بدت لافتة لهفة أبناء طريق جديدة وطرابلس الذين سارعوا للتبرع بالدم «لأهلنا في الضاحية». وخُصصت أماكن لاستقبال المتبرّعين بالدم، كما في ميدان الشهداء في أوتوستراد السيد هادي نصرالله، وتقاطع قصقص- الطيونة.
وهناك من قصد المستشفيات، ووقف عند بابها بانتظار أن يأتي دوره، مثل فتاة وقفت عند باب مستشفى الرسول الأعظم لتسأل باستمرار: «أنا A+ ما بدكن؟»، غير يائسة رغم ما سمعته أنه «نعفي النساء إلى الآن». المشهد أمام مستشفى الرسول كان سوداوياً ويصعب وصفه، ولا يقلّ سواداً بالابتعاد عن المستشفى باتجاه عين السكة، حيث تتجمهر الأمهات والزوجات والأخوات، تظهر على وجوههن علامات الحيرة والقلق، يقصدن رجالهن المتسمّرين عند باب المستشفى، بين الحين والآخر، علّهم يُسمِعونهنّ خبراً عن جرحاهن.