13 تشرين: النار التي لم تنطفئ… من بعبدا إلى صناديق 2026 – جان بو شعيا

في ذاكرة الشعوب، هناك تواريخ لا تُقرأ كأحداث، بل تُحفظ كوصايا. 13 تشرين الأول 1990، ليس مجرّد فصل في كتاب الحرب الأهلية اللبنانية، بل لحظة مفصلية، حوّلت الخيانة إلى موقف، والمقاومة إلى وجدان.
في ذلك اليوم، ومع ساعات الفجر الأولى، انهمرت القذائف على قصر بعبدا، حيث كان العماد ميشال عون، رئيس الحكومة العسكرية، يقف في مواجهة زحف الاحتلال السوري المدعوم بصمت دولي وتواطؤ داخلي. ما حصل لم يكن معركة متكافئة. بل كان قتال الشرف في وجه الخيانة.
حين قرّر النظام السوري اقتحام ما تبقّى من القرار الحرّ في لبنان، كان القصر الجمهوري في بعبدا هو الهدف الأخير.
هناك، كان العماد عون قد رفض الخضوع لإملاءات الخارج، ورفض تسليم سلاح الشرعية، في وقت كانت معظم القوى السياسية تنتقل من الخنادق إلى الصفقة. ورغم إدراكه لحجم الضغوط الدولية والعسكرية، رفض عون تسليم الدولة للمحتلّ السوري. فكانت المواجهة. استشهد عشرات الجنود والضباط في محيط القصر. سقطت ثكنات، اعتُقل المئات، نُفي القائد إلى فرنسا، ولكن ما لم يسقط هو كرامة القرار، ولا هيبة الموقف.
لعلّ الأكثر مرارة من صواريخ الجيش السوري، كان صمت الحلفاء وانسحاب الحلف الداخلي. القوات اللبنانية، بقيادة سمير جعجع آنذاك، اختارت أن تنأى بنفسها عن المواجهة، بل انسحبت من الجبهات التي كانت تحمي المناطق المسيحية، ما سهّل تقدّم الجيش السوري واجتياحه لمواقع كانت تُعتبَر معقلًا للقرار المسيحي الحر. وقد اعتبر كثرٌ أنّ هذا الانسحاب لم يكن عفويًا، بل جاء تتويجًا لتفاهمات ضمنية، هدفها إسقاط العماد عون سياسيًا، ولو على أنقاض الدولة.
لكن كما في كلّ حدث كبير، يولَد من المأساة مشروع. خروج العماد عون إلى المنفى لم يُنهِ فكر المقاومة، بل أطلق شرارة “الحالة العونية”– حالة وجدانية وسياسية وشعبية، جمعت حولها آلاف اللبنانيين، خصوصًا في صفوف الشباب، من كلّ المناطق والطوائف. أصبح 13 تشرين رمزًا للكرامة الضائعة، وصار ميشال عون زعيمًا لا يشبه سواه: لا مال، لا سلاح، لا منصب… فقط شعب قرّر أن يؤمن بأنّ الكلمة يمكن أن تهزم المدفع.
في عام 2005، وبعد 15 عامًا من النفي، عاد العماد عون إلى لبنان، مرفوع الرأس، بزخم شعبي هائل، حاصدًا نتيجة كاسحة في أوّل انتخابات نيابية بعد الانسحاب السوري. لكنّ الطريق لم يكن مفروشًا بالورود. التحدّيات الداخلية، الحصار السياسي، محاولات الإلغاء… كلّها كانت وجوهًا جديدة لنفس المنظومة التي حاولت قتله في بعبدا. ورغم كلّ ذلك، استمرّ الحلم. استمرّ التيار. وارتفعت الرايات البرتقالية في كلّ ساحة.
اليوم، بعد 35 سنة على 13 تشرين، نعيش لحظة مماثلة، لكن بأسلحة مختلفة. ما بين الانهيار الاقتصادي، وتسويات الطوائف، والتطبيع مع ثقافة الإفلات من العقاب، يعود منطق “الصفقة” إلى الساحة. لكنّ الشعب لم يعد نفسه. الوعي أكبر. والذاكرة أنقى.
إنّ انتخابات 2026 ليست مجرّد استحقاق ديمقراطي. إنّها 13 تشرين جديدة : صناديق بدل البنادق، وأوراق بدل الرصاص. لكنّ القضية هي نفسها: من نقف معه؟ من قاوم؟ أم من تواطأ؟ من وقف في وجه الاحتلال؟ أم من فرّط بالكرامة والسيادة؟ فالذين يطالبون بالنسيان، يريدون غفرانًا على جرائم لم يعتذروا عنها. يريدون تسوية على حساب الحقيقة، لكنّ شعب 13 تشرين لا يُساوم. مَن حمل بندقيته في بعبدا لا يساوي مَن فتح الطريق للغزو. مَن نُفي لأنّه قال “لبنان أولًا” لا يشبه مَن جلس على موائد الإملاءات.
ما زال أزيز القصف في الذاكرة. ما زالت صورة الجنود الشهداء في الأذهان. ما زال وجه العماد عون في بعبدا، يطلّ على التاريخ، ويقول لكلّ لبناني: “لا تسكتوا عن الحق”. ولن نسكت. في 2026، سنقولها مجددًا، كلّ واحد منّا بصوته : 13 تشرين لم تكن نهاية، بل بداية. والمعركة مستمرّة… لكن هذه المرّة، المعركة اسمها: انتخاب… لا استسلام.

You might also like