فيفيان حداد –
أخذ الأصدقاء المقربون من الراحل زياد الرحباني قراراً جماعياً بعدم الإدلاء بأي تصريحات إعلامية عن وفاته، فالتزموا الصمت التام تجاه هذا الموضوع ليستطيعوا توديعه على طريقتهم. فحزنهم الكبير على رحيل «المعلّم»، كما يسمّونه، أفقدهم القدرة على التعبير عن حزن عميق أصابهم. يتّفق أصدقاء الراحل على نقاط كثيرة حوله، وبينها ما يتعلّق بشخصيته وأخرى بمدرسته الفنية، ويذكرونه شخصاً شفافاً وصادقاً وجريئاً. وكذلك هو فنان لن يتكرر، كونه اتخذ من كتاباته وألحانه وسيلة لبناء بلد ومجتمع يشبهانه.
عبيدو باشا: «أتوقع تركه وصية أخيرة»
يُعدّ الكاتب والمسرحي عبيدو باشا من الأشخاص الذين ربطتهم علاقة وطيدة بالراحل زياد الرحباني. واكبه لفترات طويلة وتعاونا معاً في أكثر من مشروع فني، وبينها «حكايا»، وهو الألبوم الوحيد الخاص بالأطفال الذي وقّعه زياد في عام 1987.
وكان باشا من الأشخاص الذين رافقوا الرحباني في التمرينات على مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» بنسختها الثانية. فكان ينوي تقديمها بقالب جديد، إلا أن ظروف البلاد غير المستقرة يومها دفعته إلى إلغاء الفكرة.
ويروي عبيدو باشا لـ«الشرق الأوسط» نواحي من شخصية الفنان الراحل. «لقد عشنا معاً مرحلة زمنية كنا لا نفترق خلالها. ولكننا ابتعدنا في الفترة الأخيرة. فهو أُصيب بحالة اكتئاب حادة، وكان يفضّل البقاء وحيداً، وكانت صحته قد بدأت التراجع بشكل ملحوظ».
ويشير عبيدو باشا بأنه لمحه مرة من بعيد في أحد شوارع بيروت. «لم أجرؤ على إلقاء التحية عليه أو الاقتراب منه. كان بادياً عليه العياء والتعب الشديدَين بشكل ملحوظ».
ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «أعد زياد اليوم رحل إلى وادي النوم، تماماً كما طريق المقاتلين الرومان قبل أن يُحرقوا أحياء. فالشجعان لا يموتون. وزياد كان الفنان الوحيد الذي تجرّأ وقال الأمور بصراحة. فلم يتردد في اتخاذ مواقف قد تنعكس عليه بخسارات كبيرة».
ويرى باشا أن أعمال زياد الرحباني هي كناية عن مقترح لنظام اجتماعي جديد، رغب في إيصاله من خلال الكلمة والمسرحية والنغمة. «وكأنه كان يعبّر عن رفضه نظاماً اجتماعياً سائداً. فقدّم النموذج الأفضل البديل عنه من خلال أعماله الفنية».
ويشير عبيدو إلى أن زياد عاش معاناة كبيرة في طفولته. ويعود سببها إلى التوتر الدائم الدائر بين والده عاصي الرحباني ووالدته فيروز. «لم يكن ينادهما ببابا وماما بل بفيروز وعاصي». وهو ما يشير إلى نوع من المسافة تحضر بينه وبينهما. عانى من شجارات دائمة بينهما. واعترف زياد أكثر من مرة بذلك في أحاديثه الإعلامية. وعندما كان يقسو عاصي على فيروز كان زياد يوصلها إلى منزل الجيران، ليتسنى له الجلوس مع والده لترطيب الأجواء بينهما. كل ذلك أثّر من دون شك على زياد وانعكس سلباً على علاقاته العاطفية مع النساء. فلم ينجح في علاقته مع دلال كرم ولا مع غيرها. وعندما ألف أغنية «من مرا لمرا عم ترجع لورا» كان يصف نفسه بدقة.
ويختم عبيدو باشا متحدثاً عن وصية قد يكون تركها زياد قبل رحيله. ««أتمنى أن تبقى أعماله متاحة للجميع، وألّا تتدخل أي جهة رسمية في حصرها. وأعتقد أنه ترك وصية أخيرة تتعلق بمصير هذه الأعمال، وهناك أوراق قانونية أعدّها بهذا الخصوص. فمحاميته لازمته طوال السنوات العشرين الأخيرة، وأظن أنه رتّب كل شيء قانونياً لما بعد وفاته».
ريما نجيم: «لم يفهم أحد مشاعر المرأة مثل زياد الرحباني»
إثر إعلان نبأ وفاة زياد الرحباني كتبت الإعلامية ريما نجيم، عبر حسابها على «إنستغرام»: «كسرتلّي قلبي… كنّا تصالحنا قبل أن ترحل». وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» تروي نجيم ذكرياتها مع زياد الذي كانت تربطها به علاقة صداقة.
«القطيعة بيني وبينه وقعت بسبب عتبه عليّ. زياد كان عندما يعتب يصبح شخصاً قاسياً، يعاقب المعتوب بالحرمان من التواصل. حاولت مصالحته، ولكنه لم يشأ الردّ، ومنذ فترة انعزل عن الناس بسبب مرضه. وهو أصلاً من الأشخاص الذين يحبون الوحدة. هذه المرة جاءت عزلته نتيجة حالة صحية ونفسية حرجتَين».
تحضّر نجيم لبث حوار أجرته مع زياد الرحباني قبل سنوات عدّة. وعدت مستمعيها على إذاعة «صوت الغد» به. وهو -كما تذكر لـ«الشرق الأوسط»- كناية عن جلسة طويلة تحدثا فيها عن موضوعات مختلفة. «كنا يومها نتناول طعام الغداء في بلدة ضهور الشوير التي كان يحبها ويسكن في أحد منازلها. شاب الحوار ضجيج الصحون والملاعق. لم تكن يومها تقنية تنقيح الصوت متاحة كما اليوم بواسطة الذكاء الاصطناعي. وهو ما أخَّر ولادة هذا الحوار الشائق».
وتشير نجيم إلى أن زياد هو ربما الرجل الوحيد بعد الشاعر الراحل نزار قباني الذي تفهّم مشاعر المرأة إلى هذا الحدّ، فخاطب أنوثتها وأحاسيسها بشكل لافت. وكان يصنّف المرأة بـ«مفرد ومجوز»، ليفرّق بذلك بين المرأة الأنثى وتلك صاحبة الشخصية المشبعة بالرجولة. وعندما سألته إذا هو يفضّل المرأة الذكية أو الجميلة «أخذني إلى منحى آخر». وتشير نجيم إلى اعتراف زياد بفشله في علاقاته مع النساء. «أتمنى أن يكتشف الناس يوماً عمق زياد الفكري المتعلق بالنساء. فالجميع لم يكن يأخذ كلامه على محمل الجدّ في مسرحياته وأغانيه. وهو ما كان يزعجه، وحضّه على التوقف عن تقديم الأعمال المسرحية. فمن كتب (صديقي الله) وهو لا يزال طفلاً، لا بد أن يكون عبقرياً. ولكن هناك معاناة كبيرة عاشها، وحزناً عميقاً سكنه فولّد عنده هذا النبوغ».
تشير ريما نجيم إلى أنه شكا لها مرة عن علاقته بوالدته فقال لها: «تخيلي أن والدتي فيروز لم تحضّر لي يوماً ساندويتش لبنة». فانتقدته وقالت له: «يكفي أنها فيروز فلماذا تعتب؟»، فردّ: «يحق لي بذلك؛ لأنها في النهاية والدتي». وتتابع نجيم: «لقد كان يتوق للعيش في كنف عائلة عادية بين أجواء أب وأم طبيعيين».
طلال شتوي: «زياد لم يكن يحب التأليه»
يقول الإعلامي طلال شتوي راثياً صديقه زياد الرحباني: «رحل عن عمر 69 عاماً بعد صراعه مع الوطن». ويختصر بذلك معاناة الفنان الراحل مع ما يجري على أرض وطن ينزف. ويعدّ طلال من الأشخاص الذين تعرّفوا إلى زياد عن قرب. أجرى معه حوارات إعلامية عدّة. كما ألف كتاباً عنه بعنوان: «زمن زياد… قديش كان في ناس». جمع فيه حكايات عن أشخاص تقاطعت حياتهم مع حياة زياد. ويقول إنه اختارهم انطلاقاً من هذا المبدأ، مع أن بينهم من لم يتعرف إلى زياد قط. وعن ردّة فعل زياد على الكتاب حينها، يقول شتوي لـ«الشرق الأوسط»: «لم يكن يحب التأليه، وأن يكون بمثابة شخصية رمزية. خاف بداية من الكتاب؛ لأن محتواه يعطي الصورة التي يستحقّها. وشخصياته تتعاطى مع أحداث وأماكن وزمن عاشها زياد على صعيد السياسة والاقتصاد والصراعات المختلفة».
وعن علاقته بالفنان الراحل يتذكّر: «تعرّفت إليه في زمن الحرب اللبنانية. وكنا لا نقدّر أهمية الحياة وكأننا سنعيش إلى الأبد. اعتقدنا بأننا سننتصر على الحرب. ثم ما لبثنا مع تقدمنا في العمر أن أدركنا أن الحياة صعبة، وتسير بسرعة فائقة. اليوم أشعر بحسرة وحنين إلى تلك الفترات، لأنني أرى كيف يغادرها أشخاص أعرفهم الواحد تلو الآخر».