يستهلّ مؤلّفو هذه الوثيقة، التي تقع في حوالى صفحتين ونصف من الحجم المتوسّط، نصّهم بالتعبير عن فرحهم بسقوط النظام الاستبداديّ، “الذي نكّل بمواطني سوريا جميعاً”، متطلّعين إلى صفحة جديدة من تاريخ سوريا، صفحة “حرّيّة وسلام وإخاء وتعاضد وبناء وقيامة”، ومعتبرين أنّ “المأساة المدمرّة للإنسانيّة التي عانت منها سوريا” حريّ بها أن تجمع أهلها كافّةً وأن تُوحّدهم.
ينطلق كتّاب الوثيقة من كونهم مسيحيّين من حيث الانتماء الدينيّ، ويشدّدون على المساهمة التي اضطلع بها المسيحيّون في صنع حضارات بلاد الشام العريقة، ولا سيّما الحضارة العربيّة الإسلاميّة والنهضة العربيّة إبّان العصور الحديثة: “وقد قمنا بهذا الدور الحضاريّ من دون أن نتصرّف كمن يندمج في هذا التاريخ الحضاريّ المتنوّع أو ينضوي تحت لوائه وكأنّنا من خارجه، أو كأنّنا جماعات موازية ومنغلقة على ذاتها. نحن انتمينا وساهمنا كمن يفتخرون بانتسابهم إلى الحضارة الشاميّة وبعلاقتنا التاريخية بأهمّ مكوّناتها الثقافيّة في تاريخ بلادنا المعاصر: إسلام الشام الثقافيّ والمجتمعيّ والفكريّ”. ومن ثمّ، هم يؤكّدون أنّهم لا يعيشون رهاباً من أن ينتسبوا “إلى دولة معاصرة ذات هويّة تنهل أوّلاً من الحضارة والثقافة المسلمة، أو أن يُسيّر شؤون الدولة ويُحوكِمها جهاز إدارة قد ينتمي أفراده بغالبيّتهم إلى الهويّة المسلمة، شريطة ألّا يتمّ هذا على قاعدة الهيمنة والسلب والوصاية والاحتكار في القرار والمسؤوليّة والدور”.
يرى واضعو الوثيقة أنّ عمليّة إعادة التشكيل هذه ينبغي أن تستند إلى منطلقات ستّة: أوّلاً، سوريا تفتخر بهويّة حضاريّة عابرة للأديان والطوائف والأعراق واللغات، تشكّل الثقافة الإسلاميّة عمادها وعمودها الفقريّ؛ ثانياً، سوريا مدنيّة ذات دستور جامع على قاعدة المواطنة المتساوية والمتكافئة واحترام حقوق الإنسان وقيم الحضارة المدنيّة الشاميّة التاريخيّة؛ ثالثاً، سوريا جمهوريّة تعدّديّة تحترم الحرّيّات والحقوق العامّة، وتحمي المواطنين وتحاسبهم على ممارساتهم في المجتمع بالاستناد إلى الدستور والقانون؛ رابعاً، سوريا جمهوريّة قاعدة العمل الأهليّ فيها ديمقراطيّة الأكثريّة الاقتراعيّة والمشاركة البرلمانيّة، لا منطق الغالبيّة العدديّة الديمغرافيّة، أو الغالبيّة الدينيّة، أو الغالبيّة الثقافيّة اللغويّة، أو الغالبيّة العرقيّة والقوميّة، أو الغالبيّة الإيديولوجيّة؛ خامساً، سوريا تقوم على فكرة المؤسّسات، لا على ذهنيّة “القائد الملهَم أو الملهِم”، وعلى العمل البرلمانيّ التشريعيّ والمحاسبيّ والرقابيّ، لا على فكرة “مجلس الشعب” التمثيليّة الشكليّة؛ سادساً، سوريا ذات مجتمع معاييره الأخلاقيّة لا تحدّدها درجة التديّن، ومعاييره السلوكيّة لا تقرّرها قواعد اللباس والمظهر والتصرّفات الفرديّة، ومعايير الدور فيه لا تتحكّم فيها الماهيّة الجنسيّة والجندريّة، بل الخضوع للقانون والقانون فقط.
تكمن أهمّيّة الوثيقة التي نحن في صددها، أوّلاً، في توجّهها إلى السوريّين والسوريّات جميعاً، وخصوصاً المسلمين، بلغة تشدّد على التاريخ المشترك والهويّة المشتركة والمصالح المشتركة من خارج منطق الغالبيّة والأقلّيّة. وتقوم هذه الأهمّيّة، ثانياً، على كون الوثيقة تشكّل ضرباً من خيار مسيحيّ آخر، إذ ترفض متلازمة الخوف التي كثيراً ما أُلصقت بالمسيحيّين، أو ألصقوا أنفسهم بها، مشدّدةً على انخراط كُثُر منهم في الحراك الثوريّ، وتفكّك عقدة الجماعة التي تستجدي السلطة كي تحمي ذاتها، وذلك بصرف النظر عن مدى اعتصام هذه السلطة بمنطق الدولة. ومن ثمّ، يدعو كتّاب الوثيقة أفراد الشعب السوريّ إلى قراءة طروحاتهم بتمعّن، والتعاطي معها عبر حوار نقديّ جريء وبنّاء، على أمل أن تغدو جزءاً من العمليّة التفكيريّة التي يجب أن تتأسّس عليها سوريا الجديدة.