رلى ابراهيم-
خلط قرار مدعي عام التمييز بالإنابة جمال الحجار بتوقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة كل الأوراق، وحوّل الأنظار عن جبهة الجنوب والاعتداءات الاسرائيلية، مثيراً أسئلة كثيرة حول توقيت التوقيف، والتلاشي المفاجئ للحماية السياسية والطائفية التي لطالما غطّت الحاكم السابق وارتكاباته، وهل من تطمينات أُعطيت له ودفعته إلى الحضور أمام مدعي عام التمييز، حتى من دون محاميه؟ إذا كان توقيف سلامة مطلوباً ومحاكمته واجبة، فإن المطلوب أكثر من القضاء أن يفتح كل ملفاته، بدءاً بجريمة تضييع أموال المودعين بالتكافل والتضامن مع مافيا المصارف، مروراً بملفي شركتي «فوري» و«أوبتيموم» وجرائم الاختلاس وتبييض الأموال والاثراء غير المشروع، لا أن يوقف – كما هو حاصل حالياً – في «أصغر» الملفات. سوى ذلك، سيكون علينا أن نصدّق كل «نظريات المؤامرة» التي ترى في التوقيف «السلس» لسلامة جزءاً من سيناريو «شيطاني» يبدأ بتوقيف احتياطي يخرج منه بموجب كفالة مالية عالية، بالتزامن مع تثبيت صلاحية ملاحقته في بيروت تمهيداً لصدور قرار ببراءته من تهمة اختلاس المال العام أمام المحاكم اللبنانية، ما يعني في النهاية إسقاط كل التهم الموجهة إليه في الخارج، باعتبار أنّ معظمها بني على الادعاءات ضده أمام القضاء اللبناني. فهل يجرؤ هذا القضاء على فتح ملفات سلامة كلها كما ينبغي لها أن تُفتح؟
تكشّفت أمس تفاصيل مجريات يوم الثلاثاء التي أفضت إلى توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، بعدما استمع إليه مدّعي عام التمييز بالإنابة القاضي جمال الحجار. وبحسب المعلومات، فإن سلامة أراد حلاً لمشكلة منعه من السفر بناءً على الإشارة التي أصدرتها النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، ومحاولة «فكفكة» القيود الخارجية عليه عبر التعاون مع القضاء المحلي على طريقة «الشاهد الملك». لذلك، وبعد مشاورات بين وكيله القانوني والقاضي الحجار، قرّر سلامة الحضور إلى قصر العدل كمستمع إليه في ملف شركة «أوبتيموم» وأمور أخرى على علاقة بمصرف لبنان، فيكون بذلك قد ضرب عصفورين بحجر واحد: يتعاطى إيجاباً مع القاضي الذي يمسك بملفه، بما يمهّد لاحتمال حصول خرق ما في الخارج على شاكلة إلغاء ألمانيا قبل أشهر مذكّرة التوقيف بحقه.
إلا أن مجريات الجلسة شكّلت مفاجأة لسلامة الذي يبدو أن ثمة من أعطاه تطمينات باستحالة توقيفه. لذا، لم يكن يتوقع أن يواجه بوثائق وأدلة تثبت اختلاسه أموالاً عامة، وأن يعمد الحجار إلى توقيفه نتيجة ظهور معطيات تؤكد تورّطه، وهو ما يقوم به القضاة غالباً في جلسات الاستجواب.
وما إن وصل ملف سلامة إلى المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم أمس، حتى ادّعى عليه الأخير وحوّله موقوفاً إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي بجرائم «الاختلاس وسرقة أموال عامة والتزوير والإثراء غير المشروع»، طالباً استجوابه وإصدار مذكّرة توقيف وجاهية بحقه سنداً إلى مواد الادّعاء، علماً أن إبراهيم رفض سابقاً تسجيل ملف شركة «فوري» (يملكها شقيق الحاكم رجا سلامة واستخدمها سلامة لتبييض الأموال إلى الخارج) عندما حُوّل إليه من قبل النائب العام الاستئنافي للادّعاء بعدما أنجزه القاضي جان طنوس، وردّه إلى مرسله. وعليه، بات يفترض بحلاوي إصدار مذكّرة توقيف وجاهية بناءً على طلب المدعي العام يليها تعيين موعد لجلسة استجواب سلامة الذي يُتوقع أن يقدّم دفوعاً شكلية وطلباً لإخلاء سبيله لقاء كفالة مالية.
ويتضمّن ملف الادّعاء، وفق المعلومات، كتاباً من هيئة التحقيق الخاصة في المصرف تفيد بتحويل 42 مليون دولار من حساب «الاستشارات» في مصرف لبنان إلى المحامي ميكي تويني، قام بدوره بتحويلها إلى ابن شقيقة سلامة، المحامي مروان عيسى الخوري، ليحوّلها الأخير مجدداً إلى حساب سلامة الخاص في المصرف المركزي. وقد وصلت هذه المعلومات إلى الحجار بناءً على التكليف الذي أرسله إلى الحاكم بالإنابة وسيم منصوري يطلب فيه داتا العمليات التي كانت تحصل عبر حساب الاستشارات، ومن ضمنها عمولات شركة «أوبتيموم». وأمام هذا التكليف، لم يكن أمام منصوري سوى التجاوب وإرسال المعلومات التي تشكّل جزءاً من ملف «أوبتيموم»، ومن الـ 111 مليون دولار التي كشفت شركة التدقيق الجنائي «ألفاريز أند مارسال» في تقريرها أنها دخلت إلى حساب «الاستشارات» في المصرف المركزي، وهو الحساب الذي رفض سلامة كشف التحويلات التي حصلت عبره بذريعة أنه من خارج ميزانية المصرف.
وكانت القاضية غادة عون، قبل أن يصدر الحجار قراراً بكفّ يدها ويطلب تحويل الملفات إليه، بدأت التحقيقات في ملف «أوبتيموم» في حزيران الماضي، بعد إصدار شركة التدقيق «كرول» تقريراً حول الشركة، بيّنت تسجيل مبالغ تصل إلى 8.6 مليارات دولار في حساب آخر بحيث تبدو هذه الأموال أرباحاً دفترية وهمية استُخدمت لتغطية الخسائر في ميزانية مصرف لبنان وتعويم ميزانيات المصارف التجارية. وأرسلت عون كتباً إلى المصارف تطلب توضيحات حول تحويلات مالية بقيمة 111 مليون دولار أتى على ذكرها تقرير «ألفاريز» ولم يستطع تحديد هوية المستفيدين منها. واتّضح أن المبلغ هو جزء من تحويلات وعمليات أكبر، مرّت عبر 6 مصارف لبنانية (بنك عودة، بنك الموارد، بنك مصر لبنان، البنك اللبناني للتجارة، فرنسبنك، انتركونتيننتال بنك)، ومن بينها تحويلات من تويني إلى عيسى الخوري الذي حوّلها بدوره إلى حساب شركة «فوري» التي يملكها شقيق سلامة، رجا. ما يعني أن ملف «أوبتيموم» إن فُتح، فسيكشف عملية تزوير بدأت بالمركزي ومرّت عبر المصارف وشركاء سلامة في المصرف وخارجه.
مستشار قانوني لأمور غير قانونية
لكن من هو ميكي تويني وما الدور الذي لعبه؟
يبرز اسم تويني ضمن المستشارين القانونيين السابقين للمصرف المركزي، وهو عضو مجلس إدارة في عدد من المؤسسات اللبنانية كشركة طيران الشرق الأوسط، وعدد من المصارف، من بينها HSBC والبنك اللبناني للتجارة وفرنسبنك وبنك لبنان وسوريا. وكان القاضي جان طنوس استدعاه إلى التحقيق سابقاً لاستجوابه حول تحويلات مشبوهة، منها ما يتم التحقيق فيه اليوم. وبحسب ما ورد في محضر التحقيق الذي أجراه طنوس مع سلامة، فقد وجّه إليه سؤالاً حول الأموال التي قبضها تويني من مصرف لبنان وقيمتها نحو 10 ملايين دولار، فأجاب الحاكم بأن «الأموال التي قبضها تويني من هذا الحساب لا تعود له شخصياً بل لحساب شركة أخرى غير فوري (يُرجح أن تكون «أوبتيموم») بعدما فشلت عملية تحويل مباشرة من مصرف لبنان إلى حساب هذه الشركة في الخارج»، زاعماً أنه «لا يذكر البلد، إنما حتماً ليس سويسرا. كما لم يعلم السبب وراء رفض المصرف الخارجي قبول التحويلين». وأضاف أن المبلغ المرفوض «جرى تحويله إلى حساب تويني في لبنان، وعمد الأخير إلى تحويله الى الشركة المستحق لها هذا المبلغ». وبحسب المعلومات، فإن مصرف HSBC رفض تسلّم تحويلين من مصرف لبنان إلى «فوري» مجموعهما يناهز 10 ملايين دولار، فحاول الحاكم التحايل عبر نقل المبلغ إلى حساب تويني ليحوّله بدوره إلى الشركة. وهنا تتعارض الشهادات بين ما صرّح به سلامة عن أن الأموال لا تعود إلى تويني بل إلى «فوري»، وما صرّح به تويني بأن هذه المبالغ استحصل عليها لقاء خدمات قدّمها للبنك المركزي. وفي رد على سؤال آخر، قال سلامة إن «تويني محام تتم الاستعانة به من قبل مصرف لبنان، إنما لبعض الاستشارات القانونية فقط من دون أن يتقاضى أتعاباً تُذكر من مصرف لبنان لقاءها، وهو ليس أصلاً من المحامين المعتمدين من المركزي»، علماً أن تويني يعلن جهاراً أنه محامي البنك المركزي، وأصدر بياناً عام 2016 وصف فيه خبر استقالته من مصرف لبنان بأنه «إشاعة مضحكة». ولا يلبث «الحاكم» أن يورّط نفسه مجدداً عبر التصاريح المتضاربة، إذ أورد أن «مصرف لبنان انتخب تويني عضواً في شركة طيران الشرق الأوسط وهو يتقاضى بدلات من الشركة المذكورة لقاء عمله فيها»، وأكّد أن «المبالغ التي يمكن أن يكون قد تقاضاها غير ذات قيمة». ثم يُعقّب بأنه «سيراجع كيفية خلق حساب في عام 2018 من ضمن ميزانية مصرف لبنان بقيمة 20 ألف مليار ليرة لبنانية وسيبرز كل المستندات التي تثبت قانونية هذه العملية وسببها». ما يعني أن الحاكم السابق دأب على استخدام حساب تويني لتبييض الأموال، وكان الأخير على علم بما يحصل ويدرك جيداً، كونه محامياً، تداعيات جرم مماثل.
وكيل سلامة يبيّض أمواله
ما ينطبق على تويني ينطبق أيضاً على ابن شقيقة سلامة، المحامي مروان عيسى الخوري، الذي لعب الدور نفسه، إذ كانت تُحوّل إليه أموال من المصرف المركزي ليحوّلها بدوره إلى الخارج أو إلى المصرف المركزي مجدداً، ولكن إلى حساب سلامة الخاص، إضافة إلى استخدامه كغطاء قانوني لكل موبقات الحاكم. وسبق للسلطات الألمانية أن أصدرت مذكّرة توقيف بحق سلامة و5 من مساعديه، من بينهم عيسى الخوري ونجله نادي سلامة وشقيقه رجا ومستشارته ماريان الحويك وغبريال إميل جان (يتولى إدارة شركات لصالح سلامة) لارتكابهم جرائم فساد وتزوير واختلاس وتبييض أموال.
كما سبق للسلطات السويسرية التي كانت تحقق في ملف «فوري» أن ذكرت اسم عيسى الخوري ضمن نص المراسلة إلى القضاء اللبناني للسؤال عن معلومات حول المشتبه بهم بتبييض أموال في سويسرا، علماً أن عيسى الخوري عضو في مجلس إدارة شركة «SI 2 SA» التي أسّسها سلامة وفتح لها حسابات مصرفية في سويسرا، كان يُحوّل منها وإليها مبالغ مالية. كذلك عمد الحاكم إلى تأسيس جمعيات وهمية في دول مختلفة ومنها بلجيكا التي كشفت خيوط عمليات تبييض الأموال والشركات التي جرت عبرها، وإحداها يديرها عيسى الخوري. كذلك ارتبط اسم عيسى الخوري بالعقد الذي وقّعه سلامة مع شركة «سمعان غلام وشركاهم للمحاسبة والتدقيق» لإثبات نزاهته نهاية عام 2021 عندما كلّف الشركة بالتدقيق في حساباته لدحض الشائعات حول اختلاسه أموالاً عامة. يومها بيّن التحقيق الذي أجراه الوفد القضائي الأوروبي مع مدير الشركة أنطوان غلام أن وكيل سلامة، عيسى الخوري، هو من وقّع العقد مع «شركة سمعان غلام» بالنيابة عن الحاكم، مع أن الأخير كان موجوداً أثناء التوقيع.
مساعٍ لطمس الحقيقة؟
ما سبق غيض من فيض ما قام به سلامة وشركاؤه من عمليات مالية أكبر وأخطر وتطاول رؤوساً كبيرة. لذلك فإن محاسبة سلامة وأعوانه في هذا الملف والاكتفاء بالتحقيق الأوروبي حول شركة «فوري» والـ330 مليون دولار لإغلاق ملفه سيكون بمثابة جُرم بحق المودعين اللبنانيين الذين خسروا جنى عمرهم، إذ إن في ملف «أوبتيموم» وحساب الاستشارات أكثر من الـ 42 مليون دولار التي يجري الحديث عنها، ويفترض كشف حقيقة الـ8.6 مليارات دولار التي استُخدمت للتزوير والتلاعب بميزانية مصرف لبنان والمصارف التجارية بموافقة من المجلس المركزي. وبالتالي، فإن أي مسعى للفلفة الملف وعدم التوسع بالتحقيق ليطاول كامل ملف «أوبتيموم» يشير إلى نية خفية بطمس الحقيقة. أما تعليق بعض المودعين الآمال على استرجاع ودائعهم بعد توقيف سلامة والحديث عن فترة زمنية قصيرة لردّ الأموال فليس سوى إبرة مورفين أخرى تتقصّد السلطة السياسية إشاعتها، إذ إن استعادة أموال المودعين تبدأ بتحقيق موسّع يشمل المصارف ومجالس إداراتها ويتطرق إلى مسبّبات الأزمة المالية التي حصلت نهاية عام 2019 ودور النظام السياسي آنذاك في تسريع الانهيار وإقفال المصارف وكشف التحويلات التي جرت في تلك الفترة واستعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج.
تكبيل وبكاء… وزنزانة «ديلوكس»
بعدما أصدر مدّعي عام التمييز بالإنابة القاضي جمال الحجار قراره وحوّل الحاكم السابق رياض سلامة إلى مكتب ضابط التحقيق للتنفيذ، تمنّى سلامة على القاضي ألّا يساق مكبّل اليدين إلى السيارة، غير أن الحجار أبلغه باستحالة تنفيذ طلبه، مشيراً إلى أن في إمكانه أن ينزع سترته لتغطية يديه بها وهو ما حصل. واقتاد عناصر الأمن سلامة الذي كان لا يزال صلباً ومحافظاً على هدوئه. ولكن ما إن وُضع مكبّلاً في سيارة قوى الأمن حتى انهار بالبكاء.
ونُقل سلامة إلى المقر العام لمديرية قوى الأمن الداخلي ووُضع في «الزنزانة» نفسها التي شغلتها رئيسة مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية وحماية الملكية الفكرية سوزان الحاج سابقاً، وهي عبارة عن غرفة على سطح المبنى، تضم برّاداً وتلفزيوناً وهاتفاً ومكيّفاً، ومحاطة بحديقة صغيرة تسوّرها قضبان حديدية مرتفعة.