رلى ابراهيم-
قبل دخول رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية إلى السجن وبعد خروجه، حاول كثر الاستثمار في البيئة القواتية بهدف بناء حالات منافسة لسمير جعجع داخل حزبه وفي مناطقه، واستمالة جزء من جمهوره.
تعددت المحاولات من المفوّض العام السابق لـ«القوات» فؤاد مالك ومجموعة «الاتحاد من أجل لبنان»، وصولاً إلى شخصيات مثل «الحنون» (القائد السابق لفرقة «الصدم» حنا عتيق) وغيرهم ممن تلقّوا دعماً سياسياً ومالياً للعب في الملعب القواتي. لكن جميعهم فشلوا، لأنهم لم يتمكنوا من تشكيل أي إزعاج فعلي لـ«الحكيم»، ولا زاحموه على مناصريه في أي منطقة.
وحده مرشح شاب، وقواتي سابق، وناشط سياسي، وإعلامي يدير منصة تتقاطع توجهاتها مع خط القوات يؤرّق حضوره قائد «القوات» في مسقط رأسه، بعدما فرض حضوره إلى درجة دفعت «الحكيم» إلى وصفه علناً، في كلمة له في حفل عشاء، بـ«السوسة» التي يتمنى لو لم تكن موجودة في بشري.
مجرد الحديث عن نية رياض طوق الترشح في الانتخابات النيابية المقبلة رفع منسوب التوتر لدى جعجع، فشبّه حق طوق بالترشح بـ«حق» طوني طعّان بأن يسحب مسدسه ويتوجه إلى الساحة ليقتل عشرة أشخاص.
وطعّان هذا الذي استُحضر في تشبيه جعجع، ميليشياوي قواتي سابق اشتهر خلال الحرب بربط خصومه بالسيارات وجرّهم على الطرقات وتعذيبهم، ويعرفه «الحكيم» معرفة شخصية. وسواء أكان ذلك «زلة لسان» أم تهديداً مقصوداً، فإنه يكشف حقيقة ما يختبئ في وجدان جعجع حين يُسقط عنه قناع الحرية والديمقراطية، رغم محاولات إعلام حزب «القوات» تلميع خطاب التحريض وتبريره، فيما لا يتردّد في شيطنة أي خصم يتحدث بالمنطق نفسه، وصولاً إلى استدعاء القضاء للتحرك.
كلام جعجع أعاد إلى الذاكرة كل حروب الإلغاء التي اعتاد خوضها: داخل حزبه وطائفته، وضد خصومه السياسيين. والهدف الدائم التفرد بالقرار، عبر جرّ الآخرين – بأي وسيلة – للانضواء تحت لوائه. واليوم، يعيد الكرة بمحاولة خنق أي صوت «آخر»، انطلاقاً من قناعته بأن بشري لم تُنجب سواه.
والواقع أن جعجع لم يبلغ هذا المستوى من الانفعال والتحريض إلا لأنه شعر بأن طوق «ينخر» في بيئته. فمشكلة جعجع الأعمق ليست مع خصومه المباشرين، بل مع من «يشبهونه» ويلعبون على أرضه ويتحدثون لغته السياسية.
فهو مثلاً لم يُكشّر عن أنيابه في وجه النائب وليم طوق طوال السنوات الثلاث الماضية، رغم أن الأخير انتزع المقعد الثاني في بشري من ستريدا جعجع، بينما يطير صوابه من «سوسة» رياض طوق!
وبيت القصيد أن الأخير ليس طارئاً على بشري ولا على البيت القواتي، بل يكاد يكون قواتياً أكثر من كثير من القواتيين. لكنه اختار أن يكون مستقلاً والعمل ضمن تحالف «شمالنا» الذي ينشط في دائرة الشمال الثالثة.
وهو، منذ بداية عمله في الشأن العام، تمكّن من التمدد داخل الملعب القواتي الذي لم يبتعد عنه أساساً، ووسّع إطار حركته لتشمل الجمهور «التغييري»، منذ انتفاضة تشرين 2019، وصولاً إلى انتخابات 2022 حين نال نحو 1400 صوت (10% من الأصوات)، ثم الانتخابات البلدية الأخيرة حين دعم لائحة واجهت لائحة القوات وكادت أن تكسر الحزب في معقل زعيمه بعد أن حصدت 44% من الأصوات.
ولأن ستريدا كانت على بيّنة من «الخطر» الذي يدقّ أبواب بشري، استنفرت «الحكيم» للنزول شخصياً إلى بشري قبل يوم من الانتخابات، ليجول على القواتيين ويشدّ عصب مؤيديه، في سابقة غير مألوفة.
إذ اعتاد إدارة المعارك الانتخابية من معراب، مكتفياً باللقاءات البروتوكولية مع المرشحين واللوائح. ولم تتمكن زوجة «الحكيم» من كبت غيظها يوم الاقتراع، فوصفَت طوق أمام الإعلام بـ«الصحافي المتنطّح». ولم يكن ذلك انفعالاً عابراً، بل مؤشراً على نجاح طوق في إحداث خرق في الحصن الجعجعي الصلب، في مدينة يحكم حزب «القوات» السيطرة على كل مفاصلها: من البلدية والاتحاد إلى المخاتير، ومصلحة المياه، والمخافر، والهيئات القضائية. لكنها رغم ذلك، تعاني من تراجع الخدمات، وغياب فرص العمل، وضعف التعليم الرسمي، وتردّي الطبابة، في بيئة غالبية أبنائها من مزارعي التفاح وأساتذة المدارس، ما دفع كثيرين منهم إلى النزوح خارجها.
وبدلاً من إجراء مراجعة حزبية شاملة لأداء ستريدا جعجع – وهو أداء لا يقتصر التململ حياله على بشري وحدها، بل ينسحب أيضاً على أروقة الهيئة التنفيذية لـ«القوات» – اختار «الحكيم» اللجوء إلى أسلوب الترهيب في مواجهة منافسها. فوضعه أمام خيارين: إما رصاص طوني طعّان، أو الالتحاق بمعكسر «القوات».
هنا يبرز وجه آخر لهذا التصرف المتعمّد في مناسبة علنية. فبينما يرى البعض أنّ إفلاس جعجع السياسي دفعه إلى ترك معركته التقليدية ضد «السلاح» وحزب الله ليتفرغ لمقارعة طوق، يعتبر آخرون أن ما قام به مقصود، إذ سعى إلى ضرب طموح خصمه الشاب ومنع أي قواتي آخر من مجرد التفكير في التواصل مع طوق الذي تتعامل معه القاعدة «القواتية» كامتداد طبيعي لخطها السياسي.
وهذه المقاربة ليست استثناءً، بل جزء من إستراتيجية ثابتة لدى جعجع في التعامل مع كل من يحاول السير في خط مواز لحزبه. فهو يحاصر منافسيه ويضيّق عليهم الخناق قبل أن يطبق عليهم. حصل ذلك مع منصور البون الذي اختار حماية مستقبل ابنه فؤاد في كسروان، ومع بطرس حرب الذي أرسل نجله مجد إلى «داخلية» القوات، وكذلك مع آل مكاري الذين آثروا تجنّب المواجهة المباشرة لـ«حفظ رؤوسهم».
وليس بعيداً، اعتمد جعجع الأسلوب نفسه حتى مع من احتضنوه بعد خروجه من السجن، من مسيحيي قرنة شهوان إلى مختلف قوى 14 آذار، وصولاً إلى سعد الحريري ووليد جنبلاط. إنّه تاريخ طويل من حكم «الأنا» المتضخمة والشمولية المقنّعة، إذ لا مكان للتعددية في قاموس رئيس القوات. فالحزب الذي يتّهم خصومه بالشموليّة، لا يقلّ عنهم شمولية حين يتعلّق الأمر بمصلحته ومستقبله، فكيف إذا وصل الخطر إلى مسقط رأسه؟
يستعيد أحد الحاضرين في جلسة خاصة تعود إلى زمن صعود قوى 14 آذار، ما قاله «الحكيم» أمام جمع من رفاقه: «قريباً ينتهي زمن الدكاكين ويبدأ زمن المولات. وعلى الدكان المحاذي للمركز التجاري، إن أراد الاستمرار، أن يدخل ضمن المركز ويقبل بشروطه، وإلّا سيُقفل بالقوة».