لبنان الكبير بين «إسرائيل الكبرى» و«سوريا الكبرى»!

في كل مرّة تطرح القضية اللبنانية على بساط البحث، وكثيراً ما تطرح بخاصة في الظروف الحاضرة، تبرز ثلاثة أمور تشكّل العناوين الكبرى لمثل هذه القضية، وهي مفهوم لبنان ـ الكيان بما يعني وجود الدولة اللبنانية جوهراً ووحدة وواقعاً كاملاً.

1) باعتبارها سلطة سيدة تمارس على شعب وإقليم محدَّدين. والإقليم هنا (أو بتعبير آخر الحيّز) هو مفهوم جغرافي وسياسي وإداري.

2) حدود هذا الكيان لجهة الجنوب مع إسرائيل وكثرة الاجتهادات حولها.

3) حدود هذا الكيان من جهة الشرق و (الشمال) مع سوريا وتنوّع الاجتهادات حولها.

فما الذي يمكن قوله أو التذكير به حول هذه الأمور الثلاثة في ظروف لبنان المصيريّة الحاليّة؟ فما هي الملاحظات التي يمكن إيرادها عن لبنان الكيان وحدوده؟

1- يواجه لبنان الكيان تحدّيات منذ إنشائه:

– نواة دولة في بروتوكول 1861

– ثم دولة لبنان الكبير بإعلان الجنرال غورو عام 1920

– ثم الجمهورية اللبنانية مع الدستور عام 1926

– ثم الجمهورية اللبنانية المستقلة عام 1943 بحدودها المعترف بها دولياً. ولكن لبنان السيد المستقل واجه تحدّيَين في كيانه:

– إسرائيل الكبرى

– وسوريا الكبرى

2- تعود هذه التحدّيات للبنان الدولة – الحاجز بين سوريا وإسرائيل، إلى التمثلات (Les représentations) التي لدى شعوب الجوار وسياسييها واستراتيجييها، أي إلى نظرة هؤلاء إلى جغرافية بلدانهم (سوريا وإسرائيل) ومدى امتدادها مساحةً، شكلاً، بشراً وهوية، ومدى تقاطعها مع الكيان اللبناني جزئياً أو كلياً. وهذا التمثل الذهني عادة ما يترجم إيديولوجياً بعقيدة تكون قومية على العموم وتطرح إشكالية المكان/الكيان أي: حدود الدولة أو الأمة: حدودها الجغرافية أو الاستراتيجية أو حدود نفوذها السياسي في محيطها الجغرافي، أو هذه الحدود مجتمعة.

3- التمثلات الصهيونية لحدود إسرائيل الشمالية مع لبنان عبّرت عنها الوكالة الصهيونية عام 1919 في مذكرتها بمؤتمر الصلح، بالقول: «تبدأ حدود فلسطين الشمالية عند نقطة على شاطئ البحر المتوسط بجوار مدينة صيدا شاملة نهر الليطاني.. فالليطاني يشكّل ثروة نفيسة بالنسبة لسهول الجليل»، وهذا يعني ضم قسم كبير من جنوب لبنان إلى فلسطين.. ومثل هذا الحلم سيكون على حساب لبنان بما يضعه «على حدود الخطر الدائم »، كما يقول ميشال شيحا.

وفي خطاب شهير في الكنيست بتاريخ ( 16-5-1981) قال رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن: «إن من يسيطر على جبل صنين وسماء لبنان سيسيطر على لبنان كله حتى الحدود اللبنانية – الإسرائيلية وعندئذ ستواجه إسرائيل خطر الوجود».

4- التمثلات العربية لحدود سوريا ركّزت منذ زمن فيصل بن الحسين إلى زمن بشار الأسد، على «أن لبنان هو جزء من سوريا». فالرئيس السوري حافظ الأسد قال في حوار مع السيد كلودشيسون: «سايكس بيكو قطع الجزء الغربي من الشرق الأدنى (لبنان وفلسطين)، وهي كانت دائماً أريافاً سورية لا شك أنها ستعود كذلك ..». ويقول السيد عبد الحليم خدام «إن لبنان كان جزءاً من سوريا وسنسترجعه». ولهذا اعتبر، في انتهاء حرب زحلة «الخط من جزين إلى شتورة أو زحلة وبعلبك والهرمل خطاً أحمر سورياً».

5- بعض كبار السياسيين والاستراتيجيين الغربيين أشاروا إلى وجود «حلم سوري»، أي إنشاء سوريا الكبرى بما يعني عملياً إلغاء الكيان اللبناني. فالرئيس ريغان رأى أن «لدى سوريا مشروع حلم بسوريا الكبرى»، الرئيس الفرنسي ميتران قال: «إن السوريين لم يعترفوا يوماً بوجود لبنان ويعتقدون أنه يشكّل جزءاً من سوريا الكبرى». أما هنري كيسنجر فيقول في مذكراته: «إن هدف حافظ الأسد سوريا الكبرى التي تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، وإن لم يتحقق هذا الهدف على حياته فسيجيّره لخلفه». والكاتب الاستراتيجي إيف لاكوست (Yves Lacoste) يرى أن «سياسة الرئيس حافظ الأسد إزاء اللبنانيين كما إزاء الفلسطينيين تخضع لذات المنطق أي منطق سوريا الكبرى». أما الكاتب المرجعي في قضايا الحدود الدولية ميشال فوشيه (Michel Foucher) فيذهب أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن «سلطة دمشق تستند دائماً إلى فكرة «سوريا الجغرافية» أو «سوريا الكبرى»، وإلى حدودها الوهمية التي يصفونها في دمشق بأنها حدود «طبيعية»، علماً بأن هذه الصفة لم تنوجد إطلاقاً في التاريخ كدولة ولم تكن سوى مقاطعة عثمانية قبل القرن التاسع عشر».

في الخلاصة، فإن هذه التمثلات الإسرائيلية والسورية تتقاطع وتتواجه فوق الجغرافيا اللبنانية، غير أن العامل الأساسي هو أنها تتصادم، في الوقت عينه، مع تمثلات غالبية اللبنانيين الذين ينظرون إلى لبنان بذاته، ويؤمنون به ويعملون من أجله: حقيقة جغرافية وتاريخية كياناً دولياً سيّداً مستقلاً يتمتعّ بحصانة الشريعة الدولية بفضل خصوصيته: وحدةً جغرافية ومعقلاً للديمقراطية والحرية، ونموذجاً لحوار الحضارات والأديان، ومصلحة حيوية لدول المنطقة والعالم، وبلدًا ذا دور فاعل في تحديد وتجديد الثقافة العربية. وهو ما جعل البابا يوحنا بولس الثاني يعتبره أكثر من بلد: إنّه رسالة!

 

You might also like