مازن مجوز –
“بعد 35 سنة من الخدمة في وظيفتي، كنت أعتقد أن تعويضي سيكون مكافأة العمر، وسندًا لي في ما تبقى من عمري، لكن معاشي التقاعدي لم يعد يساوي شيئًا، وهو بالكاد يكفيني لتأمين الدواء لي ولزوجتي مع بعض المصاريف، اليوم أعمل بستانيًا لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، ويأتيني بعض المساعدات، تعبت لكنني مضطر، لا يمكنني أن أرى زوجتي مريضة وأكون عاجزًا عن شراء الدواء لها” يقول أبو جورج (موظف في القطاع العام) والحسرة تغلّف كلماته.
أما أم سامر (معلّمة سابقة) فتروي معاناتها: “تقاعدت من التعليم منذ 3 سنوات، وكنت قد ادخرت جزءًا من راتبي في البنك، خصّصته لشراء بيت صغير في جبيل، واليوم أنتظر ماذا ستقرّر الحكومة بشأن الودائع المتعلّقة بصغار المودعين، أُجهّز اليوم حاليًا معجنات في البيت وأبيعها في عدد من الميني ماركت، عمل متعب لعمرنا، لكن كيف يمكننا العيش؟ لا مساعدة وحتى أولادي غير قادرين على إعانتي كما في السابق”.
في ظلّ الانهيار الاقتصادي الذي يضرب لبنان منذ سنوات، لم تعد الشيخوخة مرادفًا للراحة بعد عقود من العمل، بل باتت مرحلة قاسية يتعيّن فيها على كثير من المسنين العودة إلى سوق العمل لتأمين أساسيات الحياة. ومع تآكل قيمة الليرة اللبنانية، واحتجاز أموال المودعين في المصارف، وغياب أي نظام تقاعدي فعّال، وجد آلاف المتقاعدين أنفسهم أمام واقع مرير: إمّا العمل مجددًا في مهن مرهقة لا تتناسب مع أعمارهم، أو الاتكال على الهبات والإعانات والتقديمات من الجمعيات الاجتماعية لتأمين الحدّ الأدنى من العيش الكريم.
ومن هنا، يمكن القول إن الأمان الاجتماعيّ اختفى، وحلّ مكانه قلق وجوديّ يدفع البعض للكدّ في وظائف مرهقة، أو انتظار إعانات الأقارب والجمعيّات. لقد خُدع جيل المتقاعدين بنظام مصرفي انهار، ودولة تخلّت، فباتت كرامتهم في مهبّ الريح.
لا تعكس الأرقام الرسميّة حجم المأساة بالكامل، لكن الشهادات الفردية تضيء على الألم الجماعي، لمسنين اضطرّوا للعودة إلى الكدّ ليس طمعًا، بل فقط من أجل البقاء.
وبحسب تقرير مشترك صادر عن منظمة العمل الدولية (ILO) ومنظمة HelpAge International، في 24 أيار 2024 يعتمد نحو 80 % من كبار السن في لبنان على دعم العائلة أو على مدّخرات تآكلت بنسبة عالية بفعل الانهيار الاقتصادي الحادّ وانهيار قيمة الليرة اللبنانية. وأنه في ظلّ غياب نظام حماية اجتماعية فعّال، أصبح هؤلاء عرضة للفقر، والحرمان، والعزلة الاجتماعية.
في سياق متصل، أظهرت دراسة صادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، أُجريت في أحياء بيروت، أن حوالى ثلث الرجال الذين تجاوزوا سن الـ 65 ما زالوا يعملون لأسباب اقتصادية ونفسية، وسجّلت الدراسة لدى هذه الفئة نسبًا أقل من الاكتئاب مقارنة مع أقرانهم الذين توقفوا عن العمل، ما يظهر العلاقة بين العمل بعد التقاعد والاستقرار النفسي في بيئة اجتماعية متدهورة.
وفي هذا الإطار، يصف العميد المتقاعد الدكتور فضل ضاهر، مفوض الرصد والدراسات والتربية والتطوير في الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، ما يتعرّض له المتقاعدون في لبنان بأنه “إمعان في انتهاكات فاضحة ومجرّمة لكافة القواعد الدستورية التي تُلزم الدولة بضمان حقوق المتقاعدين وعائلاتهم في الحياة الكريمة، والغذاء، والصحة، والمساواة، والأمان، وسائر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.
ويضيف أن “مؤشرات الفساد في لبنان بلغت مستويات غير مسبوقة، في وقت تنتهج فيه السلطات ما يُشبه الأفخاخ التشريعية – وهي في الواقع، مناورات احتيالية تهدف إلى منع محاسبة الفاسدين، عبر خطاب عبثي قائم على التضليل، والاستخفاف بالعقول، وطمس الحقائق، وتقديم أعذار قانونية واهية تشرّع لمرتكبي جرائم الكسب غير المشروع الإفلات من العقاب، تحت شعار: عفا الله عمّا مضى!”.
كلام ضاهر يحيلنا إلى التركيز على ثلاثة محاور، تشكل الأسباب الرئيسية لما آل إليه واقع المتقاعدين في لبنان:
1– نظام تقاعد هش ومحدود: لا يوجد نظام تقاعد شامل في لبنان يغطي جميع العاملين، بل يقتصر على فئات محدّدة، وغالبًا ما يتلقى العاملون في القطاع الخاص تعويض نهاية خدمة لمرة واحدة، بدلًا من معاش شهري منتظم، ما يجعلهم أكثر عرضة للفقر في سن الشيخوخة.
2. الانهيار المالي والمصرفي: منذ عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95 % من قيمتها، ما أسفر عن تآكل قيمة المدّخرات والمعاشات المحجوزة في المصارف. هذا الانهيار ضرب القدرة الشرائية لكبار السن، وأفقدهم الأمان المالي الذي بنوه على مدى عقود.
3. غياب الحماية الاجتماعية الشاملة: لا توفر الدولة شبكات أمان اجتماعي فعّالة لكبار السن، خصوصًا لمن عملوا في الاقتصاد غير الرسمي. كما أن الدعم الحكومي محدود، والبرامج الاجتماعية غير مفعّلة بشكل فعّال، ما يترك كبار السن فريسة للبطالة، والمرض، والعوز.
“نناشد ونطلب، ونرجو، ونرفع الصوت، وننتحب، ونصرخ، نريد أن نشعر أننا مواطنون متساوون في الواجبات والحقوق، فالمتقاعدون في التعليم أصبحوا من أدنى فئات الشعب عيشًا في لبنان… “،” حمينا تراب الوطن ومسؤوليه وشعبه بلا مقابل لنا ولعائلاتنا”. هاتان الصرختان هما من مئات الصرخات التي أطلقها الأساتذة المتعاقدون والعسكريون المتقاعدون في لبنان، خلال السنوات الست الماضية نتيجة المعاناة التي حلّت بهم وبعائلاتهم ولا تزال.
ويؤكد ضاهر أن التنكّر المتعمّد لأبسط مقوّمات “الدولة الراعية والحامية”، وبأساليبَ ممنهجة ومنتظمة على أوسع نطاق، هو الذي أدّى إلى الإفقار المتطرف والمتوحّش للسواد الأعظم من الشعب اللبناني، على نحو ما تمّ تأكيده وتوصيفه في تقرير المقرّر الأممي البلجيكي أوليفييه دي شوتر حول الفقر المدقع وحقوق الإنسان في لبنان، والذي يحمل رقم الوثيقة A/HRC/50/38/Add.1، تمّ تقديمه خلال الدورة الخمسين لمجلس حقوق الإنسان في جنيف، بين 13 حزيران و 8 تموز 2022.
وفي الختام، على الرغم من إشارة الدراسات (المذكورة) إلى ارتباط العمل المتأخر بالاستقرار النفسي، إلّا أن العملَ القسري في سن الشيخوخة يبقى مؤشرًا على انهيار منظومة الحماية الاجتماعية. من هنا، يصبح من الضروري إعادة بناء سياسات عادلة وشاملة تضع الإنسان، وخصوصًا المسن، في صلب أولويات الدولة، قبل أن تسرقَ الأزمة ما تبقى من كرامة وحقوق منصوص عليها في الدستور اللبناني، وتدافع عنها المنظمات العربية والأممية والعالمية.


