ألقى المستشار السياسي لرئيس التيار الوطني الحر أنطوان قسطنطين مداخلة باسم التيار في المؤتمر الدولي حول “الحياد الإيجابي: من المبدأ إلى الواقع اللبناني”، الذي عقد نهار الثلاثاء الواقع فيه 25 تشرين الثاني 2025 في جامعة القديس يوسف. وقد جمع المؤتمر مشاركين من سويسرا، كوستاريكا، النمسا، مولدوفا، وتركمانستان، إلى جانب ممثلين عن أبرز الأحزاب السياسية اللبنانية، وأكاديميين معروفين، وقادة من المجتمع المدني، وشخصيات عامة.
وتضمنت أعمال المؤتمر جلسات نقاش حول:التجارب والدروس المستخلصة من الدول المحايدة،الرؤى السياسية للبنان،دور المجتمع المدني، الأطر القانونية الملائمة لتثبيت مبدأ الحياد.
الحياد والتحييد في الحال اللبنانية: مقاربة دستورية -سياسية .
1. مقدّمة
يشهد لبنان نقاشاً متجدّداً حول موقعه في الصراعات الإقليمية والدولية، بين من يطرح «الحياد» كخيار استراتيجي طويل المدى، ومن يرى أنّ الظروف الداخلية والإقليمية لا تسمح بتحقيقه.
في هذا السياق، يقدّم التيار الوطني الحر مقاربة دستورية – سياسية تميّز بوضوح بين الحياد والتحييد، وتحدّد ما هو قابل للتطبيق في المرحلة الراهنة على أسس واقعية وميثاقية.
2. الإطار الدستوري والميثاقي
2.1 الدستور اللبناني
لا ينص الدستور اللبناني صراحةً على اعتماد الحياد، لكنه يضع ثوابت ميثاقية واضحة، أبرزها:
• «لبنان عربيّ في هويته وانتمائه».
• هو «عضو مؤسّس وفاعل في جامعة الدول العربية».
• ملتزم بميثاق الجامعة العربية وميثاق الأمم المتحدة.
هذا الالتزام الميثاقي لا يفرض على لبنان الانخراط في محاور، لكنه أيضاً لا يسمح بإقرار حياد كامل دون معالجة التزامات قائمة، وخصوصاً تجاه القضية الفلسطينية.
ورغم أنّ الميثاق الوطني لعام 1943 لم يذكر الحياد، إلا أن روحيته حملت فكرة الحياد الإيجابي عبر:
• عدم انخراط لبنان في محاور دولية أو إقليمية.
• القيام بدور «جسر تواصل» بين الشرق والغرب.
• ممارسة دبلوماسية متوازنة انسجاماً مع موقع لبنان وتركيبته.
لكن بعد 1943 حصلت تحوّلات جوهرية جعلت الحياد الكامل غير واقعي:
• نشوء الكيان الإسرائيلي وتوالي الاعتداءات على لبنان والدول العربية.
• تهجير مئات آلاف الفلسطينيين إلى لبنان.
• الغزوات والاحتلالات الإسرائيلية المتكرّرة، ولا تزال مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من الغجر والنقاط الثمانية محتلة.
• انضمام لبنان إلى معاهدة الدفاع العربي المشترك.
• إدراج مقدمة الدستور (1990) التي نصّت صراحة على الهوية والانتماء العربيين.
بناءً عليه، فإنّ لبنان غير قادر دستورياً وميثاقياً وواقعياً على إعلان حياد كامل:
• لوجود أرض محتلة وخطر توطين،
• ولارتباطه بالقضايا العربية،
• ولأن الدول المحيطة به لا تقبل بحياده،
• ولأن الحياد الكامل لا يمكن أن يطبَّق من طرف واحد في ظل صراع مفتوح كما هو واقع الحال .
2.2 اتفاق الطائف
أعاد الطائف التأكيد على الهوية العربية وعلى الالتزام بالجامعة العربية والأمم المتحدة، من دون تبنّي مفهوم الحياد أو الإشارة إليه، ما يؤكد أن الحياد ليس جزءاً من البنية الدستورية اللبنانية.
2.3 المعاهدات والخيارات الخارجية
أي تغيير جذري في وضعية لبنان الخارجية يحتاج إلى:
• قرار حكومي،
• وفي حالات معينة موافقة البرلمان،
• واحترام الالتزامات والمعاهدات الدولية النافذة.
3. مفهوم الحياد: شروطه وإشكالات تطبيقه في لبنان
3.1 تعريف الحياد في القانون الدولي
الحياد القانوني هو وضع دولي معترف به يتأسّس على:
• توافق دولي شامل حول وضع الدولة المحايدة،
• احتكار الدولة للسلطة والسيادة الكاملة على أراضيها،
• ظروف إقليمية تسمح بتثبيت هذا الوضع (كما في النمسا وسويسرا).
3.2 لماذا لا يمكن تطبيق الحياد في لبنان اليوم؟
تشير الأدبيات الدولية إلى أن لبنان يفتقد مقومات إعلان حياد قانوني، لأسباب أبرزها:
1. وجود سلاح خارج إطار الدولة يحدّ من وحدة القرار الاستراتيجي.
2. الانقسام الطائفي والسياسي حول الخيارات الكبرى.
3. الالتزامات العربية، خصوصاً تجاه فلسطين.
4. تداخل المصالح الإقليمية والدولية في لبنان.
وبالتالي، يبقى الحياد في الوقت الراهن طرحاً نظرياً غير قابل للتطبيق الفعلي.
4. التحييد: البديل الدستوري الواقعي
4.1 لماذا التحييد أكثر قابلية للتنفيذ؟
لأنّه على عكس الحياد:
• لا يتعارض التحييد مع الدستور،
• لا يحتاج اعترافاً دولياً مسبقاً،
• ويمكن تطبيقه تدريجياً وبقرار داخلي،
• من دون الصدام مع الانتماء العربي أو حق الدفاع المشروع.
4.2 مستويات التحييد الممكنة
1. تحييد لبنان عن صراعات المحاور
أي عدم الانضمام إلى أي محور إقليمي أو الانخراط في النزاعات ، مع الحفاظ على الالتزام العربي.
2. تحييد الأراضي اللبنانية
منع استخدام الأراضي أو الأجواء اللبنانية في النزاعات بين الدول العربية أو في صراعات لا تعني لبنان.
3. تحييد المؤسسات الرسمية
توحيد السياسة الخارجية عبر مجلس الوزراء حصراً، وضبط عمل الأجهزة وفق السياسة الرسمية المقرّرة.
4. تحييد متقدّم بضمانات دولية
يأتي في مرحلة لاحقة عبر تفاهمات عربية ودولية، لكنه ليس شرطاً لبدء مسار التحييد.
5. مسارات قوننة التحييد
5.1 قرار حكومي
يعتمد مجلس الوزراء قراراً ينصّ على:
«التزام الدولة اللبنانية بتحييد نفسها عن الصراعات والمحاور الإقليمية والدولية بما يحفظ السلم الأهلي والمصلحة الوطنية العليا».
5.2 إدراج التحييد في البيان الوزاري
صياغة مادة واضحة:
«تعتمد الحكومة مبدأ التحييد الإيجابي الذي يضمن عدم انخراط لبنان في صراعات الآخرين مع التزامه بالقضايا العربية وضمان حقه في الدفاع عن أرضه».
5.3 قانون إطار في البرلمان
ينصّ على :
• مسؤوليات الحكومة،
• دور وزارة الخارجية،
• آليات منع استخدام الأراضي اللبنانية،
• ضبط الحدود،
• تعزيز قدرات الجيش.
وهذا القانون لا يتعارض مع الدستور ولا يتطلب تعديله.
6. خطوات مكمِّلة على المدى القريب
1. إطلاق مبادرة سياسية لتقريب وجهات النظر حول أولوية السلم الأهلي.
2. تعزيز قدرات الجيش والأجهزة الأمنية.
3. اعتماد دبلوماسية هادئة مع الجامعة العربية والأمم المتحدة والدول الكبرى.
4. إشراك المجتمع المدني في نقاش وطني يرسّخ مفهوم التحييد كسلوك دولة.
7. خلاصة
• الحياد خيار استراتيجي بعيد المدى لكنه غير قابل للتطبيق حالياً ولا يمكن فرضه بإرادة منفردة.
• التحييد هو البديل الواقعي والدستوري الذي يمكن البدء به فوراً دون خرق الانتماء العربي أو التخلي عن حق الدفاع المشروع.
• اعتماد التحييد الإيجابي يشكّل خطوة عملية لحماية الاستقرار، وتوحيد السياسة الخارجية، وتعزيز سيادة الدولة، وتجنّب الدخول في صدامات داخلية أو إقليمية.
وفي الخلاصة، ليس من مصلحة لبنان الانخراط في أي صراع عربي–عربي أو إقحام نفسه في نزاعات لا تعنيه، مع التشديد على أن هذا التحييد لا يشمل الصراع مع إسرائيل ولا ينتقص من حقوق لبنان الوطنية.


