الأخبار: ندى أيوب-
القول إن هناك فئاتٍ ناخبة لا تريد تغيير واقعها ليس صحيحاً. الصحيح أنّ هناك ممثّلي «تغيير» قدّموا أنفسهم كـ«مخلّصين» لمجتمعٍ يتصرفون معه على أنه لا يدرك مصلحته، فيما همّ عاجزون عن فهم أن مجرّد رغبة الناس بتحسين واقعهم، ليس شرطاً وحيداً للاقتراع لصالحهم، ويقفزون فوق فشلهم المتراكم منذ سنوات، وفوق كل الظروف السياسية الإقليمية والداخلية المرافقة للاستحقاقات الانتخابية، والتي دفعت وستدفع المكوّنات اللبنانية إلى الاقتراع بخلفيات طائفية.
أمس، صبّ مرشحون راسبون ومؤيدوهم جام غضبهم على ناخبي بيروت، في تعاطٍ يزخر بالفوقية والاغتراب. لذا من المفيد التذكير بأنّ ناخبي بيروت أنفسهم، كانوا عام 2016 أسخياء مع «مجهولين» في الشأن العام، لم يقدّموا لهم مالاً ولا أي شكلٍ من أشكال الحماية التي عادةً ما تقدّمها قوى النظام، لأنهم كانوا ناقمين على أهل السلطة، ودفعهم تعطّشهم لتحسين أحوالهم إلى الاقتراع الاحتجاجي على ممارسات أحزابهم غير المبالية بهم.
فأعطى 30% من الناخبين في الاستحقاق البلدي حينها ثقتهم، من دون أي تجربة، لخيار «التغيير»، ممثّلاً حينها بلائحة «بيروت مدينتي». ولم يكن هذا الاقتراع بأي شكلٍ من الأشكال تبدّلاً في الخيارات السياسية، أو تخطياً لهواجس طائفية لم تكن حاضرة كما هي اليوم.
التصويت الشيعي لـ«بيروت مدينتي» تراجع من 5 آلاف إلى 350 صوتاً
بالتوزيع الطائفي، حصلت «بيروت مدينتي» على 20 ألف صوتٍ سني (25% من أصوات السنّة)، وتسعة آلاف صوت مسيحي (60%)، وخمسة آلاف صوت شيعي، في حين أن مجمل الأصوات الشيعية التي نالتها حينها لائحة الأحزاب ومن بينها «الثنائي الشيعي»، بلغت حوالي 1600 صوت فقط، وسط عدم شعور «الثنائي» بأنه مضطر إلى خوض معركةٍ في بيروت، وتجيير أصوات ناخبيه…. إضافة إلى ما يزيد عن ألف صوت درزي. الأحد الفائت، شهد هذا التصويت انهياراً تُرجم كالآتي: حوالي خمسة آلاف صوت سنّي، و2000 صوت مسيحي، و350 صوتاً شيعياً، و50 صوتاً درزياً.
وفيما حصد تحالف الأحزاب هذا العام 40% من أصوات المقترعين، مُحافظاً بذلك على نسبة قريبة من تلك التي حقّقها في عام 2016 (43%)، تراجعت «بيروت مدينتي» من المرتبة الثانية في عام 2016، بنسبة 30%، إلى المرتبة الثالثة بنسبة 8%، وبفارقٍ شاسع عن الأرقام التي نالتها لائحة «بيروت بتحبك»، المدعومة من الجماعة الإسلامية والنائب نبيل بدر وعائلات بيروتية، والتي حلّت في المرتبة الثانية حاصدةً 24% من الأصوات. بالنتيجة ارتفع التصويت التقليدي لصالح الأحزاب والعائلات من 40% إلى 64%.
اتجاهات التصويت تُترجم بشكلٍ جلي أن الكتلة المسيحية (لم تتغير نسبة الاقتراع بين الاستحقاقين) فضّلت حفظ المناصفة الطائفية المهدّدة في بيروت، فاقترعت طائفياً لصالح الأحزاب المسيحية الحاكمة من قوات وكتائب وطاشناق وتيار وطني حر. فيما تعامل الشيعة مع الانتخابات البلدية كاستفتاء سياسي لمدى تأييدهم لحزب الله تحديداً، وسط العدوان الإسرائيلي المُستمر على لبنان، وما يُرافقه من محاولات إقصاءٍ للحزب من قبل خصومه، أملاً بتغيير موازين القوى الداخلية. أما الصوت السنّي، فذهب في جزءٍ كبير لصالح محمود الجمل بدفع غير معلن من تيار «المستقبل»، وتشتتت بقية الأصوات على مختلف اللوائح الأخرى، مع تركيز على منح المرشحين السنّة في كل اللوائح أعلى نسبة أصوات.
هذه الاعتبارات، ليست الوحيدة وراء ابتعاد القاعدة «التغييرية» عمن يطرحون أنفسهم بديلاً. فقد عزّزها السلوك ««التغييري» السيئ منذ تسع سنوات، وهو سلوك لم ينعكس طمأنينة لدى الناخبين تدفعهم للخروج الفعلي من مساحة أمانهم السياسية والطائفية.
بدايةً مع انقطاع مجموعة «بيروت مدينتي» عن العمل، حين لم تفِ بوعدها بتشكيل بلدية ظلٍ تواكب عمل المجلس البلدي لبيروت المنتخب عام 2016. فقد دخلت المجموعة في سباتٍ عميق لمدة عامين، استفاقت بعدها على وقع أكبر حركة احتجاجية في تاريخ لبنان عام 2019، استفادت منها هي وغيرها من الأطر السياسية والمجموعات والناشطين الأفراد.
ومع فشل الانتفاضة (تتحمل المسؤولية غالبية مكوّناتها وليس فقط «بيروت مدينتي»)، بسبب غياب التنظيم والمشروع، وركوب البعض على ظهر أوجاع الناس، لتحقيق غايات سياسية تحقّق انتصاراً لفريق في السلطة على حساب الآخر، تجدّد إحباط الجمهور التغييري الذي كان لازماً بيعه بعض الأوهام قبل الانتخابات النيابية عام 2022، ما أدّى إلى منح 340 ألف لبناني ثقتهم مجدداً للوائح «التغيير»، ودخلت إلى البرلمان كتلة غير متجانسة أيديولوجياً، ومنقسمة على وقع الانقسام السياسي العمودي في البلد.
خاضت الانتخابات (ما عدا قلّة منهم) بتسوية شبيهة بتسويات الأحزاب التقليدية، وبشعارات فضفاضة حول «حب الحياة»، أو شعبوية كــ«نزع سلاح حزب الله» و«استرجاع أموال المودعين». وسمح قانون الانتخابات النسبي بفوز معظمهم بمجموع أصواتٍ هزيل. لكن من ارتضى التغيير من الداخل لم يدرس جيداً كيف ومتى ولماذا وبأي شروط يمكن إحداث «التغيير». عدد قليل منهم قدّم نموذجاً جدياً في العمل السياسي.
تراكم الفشل، وأتت انتخابات البلدية هذا العام، فيما الصوت «التغييري» لا يزال صوتاً اعتراضياً مُستهلكاً… إلى أن أتت الانتخابات البلدية، وتحديداً في بيروت، حيث جرى تأليف اللائحة بصعوبة نتيجة خلافات بين طباخيها.
تعنّت البعض باختيار وجوه غير معروفة، وتفرّد بقرار استبعاد شخصيات بيروتية تغييرية وازنة كانت سترفع من حظوظ اللائحة، بعقلية حكمها الانغلاق، في إيحاءٍ بأن «بيروت مدينتي» تعادي كل آخر، حتى لو كان يُحسب على المناخ التغييري.
فيما كان تأليف لائحة جامعة سيعطي معارضي لائحة ائتلاف الأحزاب حظوظاً أكبر بكثير. الحسابات النيابية لتكريس الحضور بمعناه الأبعد لعبت دورها.
كذلك الغرور الذي حال دون مراجعة التجربة والاستفادة من فشل هذا السلوك في المحطات السابقة. عدا أن بيروت ليست «أكواريوم» بدارو والجميزة ومار مخايل والصيفي، حيث مشاكل العالم الأول تفرض نفسها.
الهمّ البيروتي الحقيقي هو في المصيطبة والباشورة وطريق الجديدة والبسطا وحي السريان والكرنتينا، حيث لا مكان لمعالجاتٍ على طريقة النخب الفوقية، ولا النوادي الثقافية وعقليات الـngos، ولا مقاربات التكنوقراط. وعلى هذا المقياس فشل «التغييريون» في بعلبك والهرمل، وغالباً لن يفلحوا في الجنوب في وجه بيئةٍ جلدوها على خياراتها في حين كانت تنزف عيوناً وأطرافاً مبتورة.