الأخبار: أوهام السّفارة الأميركيّة بأن «حزب الله انتهى ومعه الوجود الشيعي في الحياة السياسيّة»، وما تسرّه إلى زوّارها بالاستعداد لمرحلة «ما بعد حزب الله»، يبدو أنّها أقنعت قائد الجيش العماد جوزيف عون. الرّجل الذي كان حتّى الأمس القريب يُنسّق مع حزب الله ورئيس مجلس النوّاب نبيه بري «في الكبيرة والصغيرة»، طمعاً بتمديدٍ، وبالوصول إلى قصر بعبدا، بات يتصرّف وكأنّ الثنائي أمل وحزب الله بات خارج الحكم!
أولَ أمس، جلس «القائد» إلى طاولة واحدة، وحيداً، مع عضو المجلس العسكري الأمين العام للمجلس الأعلى للدّفاع اللواء محمّد مصطفى، فخُيّل إليه بأنّه يرأس اجتماعاً قانونياً للمجلس العسكري. وعليه، اقترح على نفسه، وعلى مصطفى، الإطاحة برئيس المحكمة العسكريّة الدائمة العميد خليل جابر الذي يُحال على التقاعد في حزيران المقبل ووضعه في التصرّف، واستبداله عند نهاية السنة الجارية برئيس النادي العسكري المركزي العميد وسيم فيّاض، واستبدال عضو هيئة المحكمة العقيد قاسم فوّاز بالمقدّم المغوار سياد فوّاز.
وفي هذا القرار، يُكرّر عون «سابقة» ارتكبها عام 2021، عندما عزل رئيس المحكمة السابق العميد منير شحادة من دون سابق إنذار، استجابةً لإشارات غربيّة، قبل أشهرٍ قليلة من إحالته على التقاعد.
الحادثتان تُثبتان بما لا يقبل الشكّ أنّ «القائد» يريد تحويل «العسكريّة» إلى واحدة من مؤسساته الخاصّة، يتصرّف بها كما يحلو له، فيعزل من يشاء ويُعيّن من يشاء ممّن لا يُخالف رأيه. إلا أن اقتراحه الأخير يشير إلى أن «حجره طاش كثيراً»، وأنه وهو يبدو كما لا يرى أحداً أمامه: لا القانون ولا الأعراف التي تحكم التعيينات، ولا أي قوة سياسية. وفي هذا مؤشر إلى العقلية التي سيتعامل بها الطامح إلى كرسي بعبدا في حال تحقّق حلمه.
فالقائد الحالم لم يأخذ في الاعتبار مبدأ فصل السلطات، إذ إنّ «العسكريّة» تتبع قانوناً لوزير الدّفاع موريس سليم الذي بينه وبين عون ما صنع الحداد، وعلى الأرجح لن يبصم على اقتراحه كما فعل عند الإطاحة بشحادة عام 2021.
إلى ذلك، فإن هناك تشكيكاً أساساً في قانونيّة انعقاد المجلس العسكري المبتور والفاقد للصلاحية، إذ يتألف من عون رئيساً ومصطفى عضواً وحيداً، بعد إحالة العضوين اللواءين بيار صعب ومالك شمص إلى التقاعد (علماً أنه لم يؤخذ برأي الأخير عند الإطاحة بشحادة).
ويستند القائد إلى تعميم أصدره رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قبل سنوات أعطى عون «غطاء شكلياً» لانعقاد المجلس وإصدار القرارات في الإطار الضيّق لتسيير الأعمال، بحضور رئيسه و3 أعضاء (مصطفى وشمص وصعب)، علماً أنّ «اجتهاد التعميم» لم «يبلعه» القانونيّون الذين يؤكّدون أنّ «القانون أقوى من التعميم الذي يُخالف نصوصه، إضافةً إلى أنّ عون قفز عن مفهوم الإطار الضيّق لتسيير الأعمال، وبات يتصرّف كما لو أنّ النصاب القانوني موجود في المجلس».
الأهم من ذلك كلّه أنّ اقتراح عون باستبدال فيّاض بجابر يمثّل رسالة تحدّ لبري، إذ إنّ مركز رئاسة المحكمة يعود عرفاً للشيعة ويسميه عادة رئيس مجلس النوّاب. وقد تقصّد عون عدم استمزاج رأي «عين التينة» بل واعتبارها غير موجودة أصلاً، بالإطاحة بضابطٍ يُعد من حصّتها، والإتيان بضابطٍ شيعي آخر يُعرف عنه أنّه من المقرّبين من قيادة الجيش، ويدور تحديداً في فلك مدير مكتب القائد العميد عماد خريش.
عين التينة توجّه رسالة قاسية إلى قائد الجيش: «الثنائي» لم ينتهِ بعد!
عملياً، يقلب عون صفحة بري، على أعتاب التمديد، وكأنّه يقول بذلك، إنّه غير آبهٍ بما تُقرّره «كتلة التنمية والتحرير» بشأن حضور جلسة التمديد، طالما أنّه «ينام على حرير» السفارة الأميركيّة ووعودها بأن التمديد آتٍ لا محالة!
هذه الرسالة وصلت مباشرة إلى بري. وعلمت «الأخبار» أنّ دوائر عين التينة بعثت برسالة قاسية إلى عون مفادها أنّ هذا الاقتراح خارج عن الأصول وتمّ إصداره من دون تشاور كما يحصل عادةً، وبالتالي لن يمرّ مرور الكرام، مشيرة إلى أنّ الثنائي «حزب الله وأمل لا يزال موجوداً في الحياة السياسيّة»!
وفي سياق متّصل، لم يُعرف ما إذا كان وزير الدّفاع في حال وصول الاقتراح إلى الوزارة خلال اليومين المقبلين، سيوافق عليه أم سيرفضه ليفتح خلافاً جديداً مع «اليرزة»، علماً أنّ العادة تقضي بأن يوقّع الوزير على اقتراحات التعيينات في المحكمة مع نهاية كلّ عام.
استياءٌ في «العسكريّة»
وبمعزل عن ارتدادات الاقتراح السياسيّة وما إذا كان سيؤخذ به في وزارة الدّفاع، إلا أنّه يمكن وضعه في مسيرة «الإجهاز» على المحكمة التي لم تعش استقراراً في هيكليّتها منذ عام 2020، لدى تعيين العميد منير شحادة رئيساً لها بعد تنحي العميد حسين عبدالله إثر إطلاقه سراح العميل عامر فاخوري، إذ سرعان ما عُزل شحادة ليُعيّن مكانه العميد علي الحاج الذي بالكاد تسلّم منصبه لتسعة أشهر قبل إحالته على التقاعد. بعده عُيّن جابر رئيساً للمحكمة إلا أنه لم يتمكّن من تسلّم مركزه إلا بعد 5 أشهر بعدما وقّع وزير الدّفاع قرار التعيينات في آذار 2023، تولّى خلالها أحد الضبّاط تسيير الجلسات.
اقتراح قائد الجيش الذي تسرّب إلى «العسكريّة» أمس أثار الاستياء، خصوصاً أنّه أتى مفاجئاً ومن دون مقدّمات، كما أنه يمسّ برئيس المحكمة الذي سيتم وضعه في التصرّف، وبالتالي الإيحاء بارتكابه مخالفة ما، علماً أنّ جابر الذي فقد منزله في بيروت ومنزل ذويه في مسقط رأسه يانوح، بقي يعمل بدوام عادي خلال الحرب، فيما قيادة الجيش التي لم تسأل عن أحوال ضابط أصدر أكثر من 12 ألف حكم خلال أقل من عام، قرّرت أن تصدر قراراً انتقاميّاً، من دون الأخذ في الاعتبار أحوال المحكمة وتعطيل مسار جلسات الموقوفين في ظل الحرب.
والواضح في هذا الاقتراح أن القائد قدّم المحسوبيات السياسية على حاجات المحكمة بعدما وعد منذ سنوات بتعيين رئيس لها من حملة إجازة الحقوق ليكون قادراً على تسيير أعمال المحكمة، فيما اقترح اسم ضابط مقرّب منه يُعنى بما يُقدّم على طاولات النادي العسكري، ولا خلفية قانونية له، مستبعداً أكثر من ٥ عمداء شيعة يحملون إجازة الحقوق، أحدهم يحمل شهادة دكتوراه في القانون (علي حمية)!