عكس السير: غسان سعود-
لا يمر ذكر التيار الوطني الحر في الإعلام أخيراً من دون أن «تفنجر» المذيعة عينيها وتتسع فتحتا أنفها مستغربة كيف يجرؤ التيار على خوض الانتخابات بعد أدائه في السلطة.
لكن، لو كان مقياس القوة الشعبية مبنياً على الأداء الإداري للحزب أو الفرد، لما بقي حيّاً أحد ممن تناوبوا على السلطة، ومن أصحاب المصارف والمديرين العامين والقضاة وكبار الضباط. فها هم يسرحون ويمرحون، حتى أن أطنان الكافيار السبعة المستوردة سنوياً، بقيمة تزيد على ثلاثين مليون دولار، تعجز عن سد قصباتهم الهوائية.
هل يتذكر أحد حال الليرة في عهد أمين الجميل أو وضع السياحة في عهد إيلي ماروني عند التفكير بالتصويت لحزب الكتائب؟
وهل يُعاد انتخاب زياد حواط بناءً على وعوده «الخرافية»؟ وهل يفكر الإعلامي الكبير في الإدارة أو العدالة أو المال حين «يسخسخ» أمام رئيس هذه اللجنة أو تلك؟
وهل يعرف أحد لماذا شنّ تلفزيون «الجديد» حملة على مدير عام الأمن العام، وماذا تناول تحسين خياط وابنته على مائدته حتى تغيّرت نبرة نشراتهم؟
هل الـ7076 بترونيًا الذين منحوا مجد بطرس حرب أصواتهم التفضيلية فعلوا ذلك تقديراً لرؤيته، أم لإنجازات والده في الوزارات المختلفة، أو الاتصالات تحديداً؟ وهل كان الـ11099 عكاريًا الذين منحوا أصواتهم لوليد البعريني، القامة الوطنية والفكرية العظيمة، يفكرون بالإنماء الزراعي لعكار؟ وهل صبّ المؤمنون بالخدمات التكنولوجية أصواتهم للنائب بلال الحشيمي؟
في المجلس النيابي، «أشياء» مثل بيار أبو عاصي وزميله كميل دوري كميل دوري كميل دوري كميل شمعون… ثم يأتي متذاكٍ أو متذاكية ليكدس التجاعيد بين الأنف والعينين لدى طرح السؤال – السبق!
مشكلة التيار الوطني الحر ليست في أدائه السابق، الذي كان بلا شك أفضل من أداء القوات اللبنانية في السلطتين السابقة والحالية، ولا في تحالفاته السياسية، إذ يتحالف اليوم في السلطة من كانوا يعيبون عليه هذه التحالفات. المشكلة الحقيقية هي في غياب العدو – الآخر في وطن تشكّل فيه العصبيات المذهبية والمناطقية الأساس شبه الوحيد للشعبية.
بين 2005 و2016، رفع التيار شعار تصحيح التمثيل السياسي كغطاء مهذب للتعبئة الشعبية المسيحية ضد النفوذ المتصاعد للمسلمين منذ اتفاق الطائف. خلال تلك المرحلة، لم يكن المكوّن الشيعي، وحزب الله خصوصاً، هو الخطر في العقل الباطن المسيحي، بل «المارد السني» الذي افترضوا مرتين أنه سيستيقظ: الأولى بعد الانسحاب السوري وصعود تيار المستقبل، والثانية مع ثورات الربيع العربي وصعود «الإخوان المسلمين» في المنطقة.
وفي هذه المرحلة، كانت «السياسة السنية» خصم التيار في وطن يعشق مبدأ «انصر أخاك، ظالماً أم مظلوماً»، ما مكّنه من حشد التأييد الشعبي، في وقت وضع الرأي العام المسيحي القوات اللبنانية وما كان يعرف بمسيحيي 14 آذار في خانة التبعية لتيار المستقبل.
بدأ التحول الدراماتيكي بعد تفاهم التيار مع المستقبل ثم مع حزب الله عام 2006، لكن التراجع الشعبي الفعلي لم يظهر إلا عام 2016 بعد تفاهم سعد الحريري وجبران باسيل. فالتيار، المتحالف مع الطرفين، والذي لم يعد يذكّر بالأجراس المخبأة في قبو المختارة، لم يعد يقاتل «الآخر» في وطن يعشق مجدداً مبدأ «انصر أخاك، ظالماً أم مظلوماً».
وهذا ما التقطه المطبخ الأميركي سريعاً، فحدّد إحداثياته في الاتجاه المطلوب: لقد خُوِّفتم من المارد السني، فيما المارد الحقيقي شيعي، يحكم اليوم ويتحكم بالسياسة والأمن والاقتصاد والقضاء والتجارة، وحتى بالمياه والطعام. وعلى طريقة الأساطير، أُخرج سمير جعجع من حلقاته المفرغة لمواجهة هذا المارد نفسه الذي كان حتى منتصف عام 2018 يواصل التودد إليه.
بدأ التراجع الشعبي للتيار حين أوقف حملاته التحريضية على «سعد الدين رفيق الحريري» كما كان يسميه جان عزيز، مستشار الرئيس ميشال عون سابقاً والرئيس جوزف عون حالياً، وضد وليد كمال (الحركة الوطنية) جنبلاطـ، وضد الرئيس نبيه بري، الذي لا يمكن شتمه صباحاً وإحالة إليه القوانين مساء.
في المقابل، صعدت القوات وأخواتها حين شرعوا في التحريض على الحريري في السعودية ولبنان، وركّزوا نيرانهم على حزب الله، من دون أن يفوّتوا فرصة لـ«لطش» جنبلاط رغم تحالفهم معه انتخابياً.
على مدى عقد ونصف، أقنع التيار جمهوره بأن سعد الحريري خطر وجودي على المسيحيين، ثم تصالح معه. وفي الوقت نفسه، روّج بأن سمير جعجع هو من غدر بالحريري وأرسله بـ«وان واي تيكيت» إلى السعودية. فمن يكون البطل في نظر الرأي العام؟ تلك هي اللعبة الصعبة في التنقل بين حوافي الهاويات.
للأسف، تميل غالبية الأقليات إلى من يخوض الحروب لا من ينهيها. تفضّل ميشال عون المقاتل ضد الجيش السوري على ميشال عون الداعي إلى مجلس تعاون اقتصادي مشرقي يشمل سوريا والأردن والعراق وتركيا وأرمينيا، وتفضّل السياسي المصفّق للعقوبات على بلده على من يطالب بحقه في ثرواته.
وهذا يفرض تصحيح السؤال: هل يمكن لأي طرف لبناني خوض الاستحقاق الشعبي من دون أن يكون له خصم من «طائفة أخرى»؟ الجواب بالطبع لا، بدليل الحرب الشعواء التي يصر سمير جعجع على افتعالها ضد الرئيس نبيه بري، مع ترحيب الأمليين بها لأنها تخدمهم انتخابياً أيضاً.
هل يريد اللبناني سياسيّاً يعده على المنبر بتفاهمات وطنية، أم بصدامات طائفية؟ بمحاولة بناء الوطن، أم بتدمير ما تبقى منه؟
لا يفترض بأحد التسرع في الإجابة، فالوقائع مؤسفة ومدمرة. فهناك أكثرية شعبية لا ترغب في أن يصارحها السياسي بالحقيقة كما هي، بل ترجوه أن يكذب عليها، ويزيد فوق أوهامها أوهاماً.
					

