تمجيد قبيسي –
أظهرت اعترافات عدد من الموقوفين، إلى جانب خلاصات تحقيقات موسعة، وجود نشاط منظم لشبكات دعارة وإتجار بالبشر، في الشرق الأوسط، وضمناً لبنان، تنسّق مباشرة مع شبكات مماثلة في شرق أوروبا والبلقان، بما يحولها إلى مافيا دولية.
مصادر رفيعة في الأمن العام اللبناني أوضحت لـ«الأخبار»، أن هذه العصابات تعتمد أساليب احتيالية لاستدراج الضحايا، إذ تُغرِّر بفتيات من قرى وأرياف فقيرة في مولدوفا وبلغاريا وصربيا وغيرها، عبر وعود كاذبة بوظائف مُجزِية في الشرق الأوسط. وما إن تصل الفتيات إلى وجهتهن، حتى يُزجّ بهن قسراً في شبكات دعارة، بعد الاعتداء عليهن جنسياً بشكل متكرر، بهدف كسرهن نفسياً. ثم يتمّ إجبارهن على تعاطي المخدرات للسيطرة عليهن نفسياً وجسدياً، إضافةً إلى تهديدهن بإلحاق الأذى بعائلاتهن في أوروبا في حال هروبهن أو اللجوء إلى الأجهزة الأمنية.
استغلال لثغرات قانونية
وتستغل هذه الشبكات ثغرات قانونية للنفاذ إلى «السوق» في لبنان، إذ يتم استقدام الفتيات من شرق أوروبا والبلقان عبر تأشيرة «فنانة»، ويتم تنظيم عقود عمل لهن مع نوادٍ ليلية كبرى «Super Night Clubs»، ليتم تسجيلهن في نقابة الفنانات تحت مسمى «فتاة استعراض». إلّا أن المسمى الوظيفي ليس سوى غطاء قانوني لممارستهن الدعارة مع الزبائن، مع العلم أن بعضهن يعملن بكامل إرادتهن، ولكن الغالبية بالإجبار، بعد الاستدراج والإخضاع. ويشار إلى وجود أساليب أخرى غير تنظيم عقود العمل، ولكن هذا الأسلوب هو الأكثر شيوعاً.
ورغم أن القانون اللبناني لا يُجيز الدعارة رسمياً، إلّا أن الأمن العام يُجري فحوصات طبية دورية للفتيات (الفنانات) للتأكد من أنهن لا يحملن مرض «الأيدز». ويرسل دوريات بانتظام إلى النوادي الليلية للرقابة. ويشترط أن يقتصر دوام الفتيات على الفترة الليلية التي تنتهي في الخامسة صباحاً، ما يمنع خروجهن مع الزبائن خلال ساعات العمل. فتتم المواعدة خلال النهار خارج النادي لصعوبة ضبط الأمر. اللافت أن وزارة السياحة، وفقاً لمصدر مطلع، كانت «تعترض على مداهمات الأجهزة الأمنية أو توقيف شبكات الدعارة، لاعتبارها أنها تلحق الضرر بالسياحة، في لبنان، الذي يُعدُّ وجهةً للدعارة الجنسية».
شبكة مقرها فندق في بيروت
وشهد الشهر الفائت سلسلة مداهمات أسفرت عن ختم أربعة فنادق بالشمع الأحمر، وإقفال ثلاثة مراكز تدليك. وأبرز هذه العمليات التي نفذها مكتب مكافحة الإتجار بالأشخاص وحماية الآداب في وحدة الشرطة القضائية حصلت في السابع من الشهر الماضي، واستهدفت شبكة دعارة داخل فندق في بيروت، وأوقف خلالها 18 فتاة من جنسيات متعددة، بينها: التركية والفنزويلية والروسية والأوزبكية والطاجيكية والمولدوفية، إضافة إلى مدير الفندق وموظف الاستقبال.
ووفقاً لمعلومات «الأخبار»، فإن هذه الشبكة تُصنّف ضمن أكثر الشبكات شهرةً ونفوذاً وتقاضياً للأجر في هذا الوسط. إذ تتقاضى الفتاة 400 دولار للساعة الواحدة عند الخروج، و200 دولار داخل الفندق الذي يُعدّ مقراً أساسياً للشبكة، فيما تتيح للزبائن الدفع عبر العملات الرقمية، مع العلم أن للشبكة قناة خاصة على تطبيق «تيليغرام»، تُعرض صور الفتيات عليها.
وتبيّن أن الفتيات في هذه الشبكة عملن سابقاً في دول عربية وأجنبية ضمن شبكة دولية تنشط في منطقة الشرق الأوسط، ويقع فرعها الثاني في السعودية. وهي تدار من أشخاص خارج لبنان، بالتنسيق مع شركاء محليين. وكانت الفتيات موزعات في السابق على ثلاثة فنادق في العاصمة أيضاً، قبل أن يُحصر نشاطهن في الفندق الذي جرت مداهمته.
كذلك كشف مصدر في أمن الدولة عن توقيف ح. ي.، أحد أبرز مشغلي شبكات الدعارة، والذي يتولى نقل فتيات من الضاحية الجنوبية إلى جونية. وهو شريك المدعو «زوزو نظيرة»، أحد أبرز مشغلي شبكات الدعارة، الذي أوقفته شعبة المعلومات قبل حوالى شهرين في جونية، بعد مداهمة تخللها إطلاق النار.
وأفاد مصدر في مخابرات الجيش بتوقيف شبكة دعارة وترويج مخدرات في فندق في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 13 الشهر الماضي، لافتاً إلى إقرار المدعوة (ج. ح.) في التحقيق بإدارتها، واستدراج فتيات وتصويرهن، ثم ابتزازهن بهدف تشغيلهن.
وأجمعت مصادر الأجهزة الأمنية الرسمية الأربعة، التي تواصلت معها «الأخبار»، على أن «تنفيذ مداهمات أكثر مرتبط بتوافر أماكن في السجون، التي غالباً ما تكون ممتلئة».
في المقابل، ووفقاً لـ«خبير» في هذا الوسط، تواصلت معه «الأخبار»، لا يمكن استمرارية عمل أي شبكة لأسابيع متتالية إلّا بوجود غطاء أمني، لا يقف فقط عند غضّ النظر، وإنما يصل أحياناً إلى تصفية شبكات منافسة لإفساح المجال أمام الشبكة المَحمية.
أساليب تقليدية… وغير تقليدية
وفيما لا تزال بعض الشبكات تعتمد الأساليب التقليدية، أي استئجار شقق سكنية وتجهيزها لاستقبال الزبائن تحت ما يُعرف بمصطلح «In call»، تستخدم شبكات أخرى الشقق كمراكز تجمع من دون استقبال الزبائن، وغالباً ما تكون في أماكن قريبة من مناطق تضم عدداً كبيراً من الفنادق.
وتلجأ شبكات أخرى إلى الإقامة في فنادق، حيث يحجز المُشغِّل عدداً من الغرف (غرفة لكل فتاة)، ويُنسِّق مسبقاً مع الزبون عبر اتصال هاتفي لتحديد الفتاة والسعر. وهذا النمط من التشغيل لا يتم إلا بتواطؤ مباشر أو ضمني مع إدارة الفندق أو أحد العاملين فيه. وفي هذا السياق، رُصدت حالات عَرضت فيها الفنادق على النزلاء إمكانية إرسال فتيات إلى الغرف. واللافت أن بعض هذه الفنادق يتيح حجز غرف دون إبراز الهوية مقابل دفع مبلغ إضافي بسيط.
ونشاط هذه الشبكات لا ينحصر بمناطق محددة، فبعد مقاطعة المعلومات المتوافرة، تنتشر بيوت الدعارة والفنادق التي تستخدمها هذه الشبكات في مناطق مختلفة من بيروت ومحيطها، وصولاً إلى ساحلَي المتن وكسروان، ويقع أحدها في شارع يضم مركزاً لجهاز أمني رسمي!
أما النمط الأكثر رواجاً، فهو «الدليفري الجنسي» أو «Out call»، أي التواصل هاتفياً لإرسال الفتاة إلى المكان الذي يريده الزبون. وتبدأ العملية، بعد التواصل مع أرقام للشبكات معروفة للزبائن، وإرسال صور الفتيات عبر تطبيقات مثل «واتساب» أو «تيليغرام»، ليختار الزبون إحداهن ويرسل موقعه بعد الاتفاق على السعر. علماً أن بعض الشبكات تشترط إرسال الفتيات إلى فنادق محددة، أو تطلب من الزبون إرسال صورة له وصورة عن الهوية، ما يدل على امتلاكها قواعد بيانات واسعة.
بعض الشبكات تعتمد أسلوب النشر العلني للفتيات على الطرقات في مواقع محددة اعتباراً من الثامنة مساءً، أما الفتيات اللواتي يفضلن العمل بشكل مستقل لتجنّب تقاسم العائدات مع مشغِّل، فلا يُسمح لهن بالوقوف في المواقع نفسها. لذا، تلجأ النسبة الأكبر منهن لخدمة «الدليفري الجنسي». وقد سُجّلت إشكالات سابقة عدة على خلفية هذا «النفوذ المناطقي».
وتتخذ بعض الشبكات واجهات تمويهية تصعب ملاحقتها قانونياً، أبرزها مراكز التدليك. وفي الآونة الأخيرة، برزت ظاهرة «الدعارة الإلكترونية المنظمة»، أي تقديم خدمات جنسية عبر مكالمات فيديو مقابل مبالغ مالية تُحوّل سلفاً عبر شركات تحويل الأموال.
التسعيرة حسب الجنسية
وفقاً لمصادر أمنية، فإن الجنسية التي تتصدر سوق الدعارة في لبنان، هي السورية، نتيجة لعوامل عدة، أبرزها النزوح، وتفلّت المعابر الحدودية بين البلدين، إلى جانب استمرار الأزمة الاقتصادية في سوريا. ويشار، في هذا السياق، إلى أن الأمن العام يرحِّل الفتاة (المومس) بعد توقيفها. ولكن المُشغِّل يُعيد إدخالها إلى لبنان عن طريق المعابر غير الشرعية. وفي عام 2023، صدرت نشرات حمراء عبر «إنتربول»، لملاحقة سوريين مقيمين في لبنان متورطين في شراكات مع شبكات دعارة لبنانية، تستقدم فتيات سوريات لتشغيلهن.
وتأتي في المرتبة التالية الجنسيات الأفريقية (يتم إدخال فتيات من دولة أفريقية بطرق غير قانونية وتسجيلهن كعاملات في الخدمة المنزلية أو كعاملات تنظيف، قبل استدراجهن إلى شبكات الدعارة)، فالجنسيات الآسيوية، وأبرزها الفيليبينية، ثم من شرق أوروبا والبلقان، مع الإشارة إلى أن الفترة الماضية شهدت تكاثراً للفتيات من الدول اللاتينية، خصوصاً فنزويلا والبيرو وكولومبيا والبرازيل.
وتختلف تسعيرة الساعة الواحدة وفقاً للمنطقة ونوع الشبكة وجنسية الفتاة وطبيعة الخدمة المقدّمة. فخدمة استقبال الزبون في مقر الفتاة «In call» تُعدّ أقل تكلفة من خدمة انتقال الفتاة إلى الزبون «Out call». ويقدر المعدل المتعارف عليه للجنسيات العربية من 50 إلى 130 دولاراً، فيما تراوح تسعيرة الجنسيات الآسيوية والأوروبية واللاتينية بين 200 و400 دولار. أما الجنسيات الأفريقية، فتراوح التسعيرة بين 20 و80 دولاراً.
وتخضع العاملات في النوادي الليلية الكبرى لتسعيرة مختلفة.
يذكر أن بعض الشبكات «الكلاس» تتيح الدفع عبر المصارف، والعملات الرقمية، والتحويلات المالية. ويُلحظ أن بعض الفتيات والشبكات يشترطن إيداع مبلغ مسبق عبر شركات تحويل الأموال قبل التوجه إلى الزبون، كإجراء احترازي لضمان الدفع.