رلى إبراهيم –
وبات من الواضح لكل الأطراف الخارجية أن التغيير يبدأ من البرلمان، ثم ينسحب على باقي المؤسسات والإدارات والمواقع، لا العكس، بدليل بقاء الوضع على ما هو عليه بعد انتخاب رئيسَي جمهورية وحكومة يُعدَّان من نتاج المطبخ السياسي، الذي تقوده أميركا والسعودية.
وكان لا بدّ لمستشاري رئيس الجمهورية جوزيف عون الذين يدركون هذه اللعبة، أن يهمسوا في أذنه بضرورة التحضير لاستحقاق قد يُضيف إلى جانب لقبَي قائد جيش ورئيس جمهورية، لقب الزعيم المسيحي الأقوى. وفي القصر، من يعتقد بأن تبدّل موازين القوى بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، ثم البلدية، والعدوان الإسرائيلي بينهما، عزّز موقع «القوات اللبنانية» في المعادلة السياسية، بينما يصارع التيار الوطني الحر الطواحين الغربية والمحلية للبقاء على قيد الحياة.
ويفترض هؤلاء أن رئيس الجمهورية قادر أمام ذلك على تشكيل كتلة نيابية وازنة، توازي «القوات» عند المسيحيين، ولا سيما إذا ما تمكّن من تحقيق السيناريو المُفترض المتمثّل بتأسيس كتلة نيابية من 12 إلى 20 نائباً، غالبيتهم من المستقلّين المستفيدين من التلطّي تحت عباءة عون، على اعتبار أن ولاءاتهم تتبدّل مع تبدّل السلطة الحاكمة.
من هذا الباب، بدأ عون اجتماعات مفتوحة مع مختلف القوى لجسّ نبض الجمهور، ولا سيما في المناطق المسيحية. فلم يخرج العشاء مع رئيس تيار المردة سليمان فرنجية عن إطار تأكيد التعاون في مختلف الملفات بعد طيّ صفحة الخلاف الذي رافق انتخاب رئيس الجمهورية، وحجب أي حصة حكومية عن «المردة». أمّا الاجتماع مع قائد «القوات» سمير جعجع، فحمل في طياته صورة إخضاع جعجع الذي يُزار في قصره ولا يزور، في مقابل رفض عون الاجتماع به يوم كان قائداً للجيش، ثم عند طرحه كمرشح لرئاسة الجمهورية، واضطرار «القوات» إلى التصويت له، ثم زيارته في بعبدا، رغم كل هجماتها على مواقف عون، في مسألة سلاح حزب الله.
وبعد زيارتَي فرنجية وجعجع، أتت زيارة النائب جبران باسيل إلى قصر بعبدا نهاية الاسبوع الماضي، والتي سُجّل خلالها «تطابق» في الرؤية حيال ملف السلاح، وإدارته بهدوء دون الخضوع لطلبات الخارج عبر عزل طائفة وإقصائها. غير أن هذا التطابق معطوفاً على تاريخ عون العسكري وخلفيته العونية وخيارات قاعدة التيار العاطفية، فتحت شهية الرئيس منذ تسلّمه مفاتيح بعبدا على محاولة اجتذاب نواب ووزراء وكوادر التيار تمهيداً لمشروع أكبر ستتضح معالمه مع اقتراب الانتخابات النيابية، علماً أن تجلياته بدأت عند تعيين قدامى التيار والعونيين السابقين في مسؤوليات استشارية إلى جانب رئيس الجمهورية.
ويعمل هؤلاء بالتعاون مع «عونيين»، على وضع خطوط عريضة لكيفية مواجهة «القوات»، ومنعها من «أكل» الأرض من جهة، إلى جانب إضعاف التضامن العوني مع التيار وخلخلة أعمدة قيادته عبر اجتذاب الأعمدة الرئيسية لوضعها في تصرّف رئيس الجمهورية، ويخوض بها معركته السياسية.
الرئاسة لا تصنع الزعامة
بدوره، يدرك التيار جيداً المخاطر المحدقة به من مختلف الجهات والجبهات ويتحسّب لسيناريوات مقبلة تهدف إلى محاصرته ومضايقته لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وتحديداً إلى أيام الانتفاضة، حينما كان «العوني» يخجل بالبوح بـ«عونيته». لذلك، كان التركيز الرئيسي لدى باسيل خلال الأشهر الماضية على إعادة ثقة التياريين بأنفسهم، و«شدشدة» قاعدته، مستفيداً من تخفيف الحملة عليه بعد ابتعاده نسبياً عن حزب الله. ويعتبر مسؤولون في التيار أن الانتخابات البلدية أعادت تثبيته كقوة كبيرة، رغم كل الحروب التي شُنّت عليه.
والحديث عن قوتين مسيحيتين رئيسيتين في استحقاق لم يتمحور حول المنافسة الإنمائية، بل السياسية بامتياز، وحصل منذ شهرين فقط، «يُثبت أن في المناطق المسيحية ليس ثمة من طرف ثالث قادر على منافسة الحزبين في الشارع المسيحي، بما فيه الكتائب والمردة والمستقلون ورئيس الجمهورية».
وتشير مصادر التيار إلى «وجود عناوين مشتركة مع عون ولا مانع من التعاون معه إن ذهب بخيارات وطنية تشبه خيارات التيار. لكن يُفترض التركيز على أن الرئيس هو من يحتاج إلى غطاء نيابي مسيحي من باسيل لدعم مواقفه وليس العكس». في هذا السياق، وقبيل 10 أشهر من الانتخابات النيابية، «من ينفخ في أذن الرئيس بإمكانية بناء زعامة شعبية انطلاقاً من موقع الرئاسة لتشكيل كتلة نيابية يصيب العهد في مقتل، ويدمّر موقعه كحكم جامع، لينتهي بكونه رئيساً خاسراً من دون حاضنة شعبية».
ويستشهد أحد المخضرمين بالتاريخ للاستدلال على أن صناعة الزعامة مسار يرتبط بعلاقة الزعيم بقاعدته الشعبية، وهو ما يختلف عن صناعة الرؤساء، خصوصاً إذا كان سبب وصول هؤلاء إلى الموقع يرتبط بعوامل خارجية وموازين قوى. فالواقع أن الزعماء الشعبيين قادرون على الترشح إلى الرئاسة التي تُعتبر أبرز طموحاتهم، لكنّ العكس غير صحيح. وثمة أمثلة منها الرئيسان إميل لحود وميشال سليمان. وسابقاً حفل التاريخ بتجارب فؤاد شهاب وشارل الحلو وإلياس سركيس وإلياس الهراوي.
خطة التيار: تثبيت قوته النيابية
ينطلق التياريون مما سبق للتقليل من أهمية وضع عدد قليل من النواب «الأثرياء والقادرين على تمويل حملاتهم» أنفسهم في تصرّف رئيس الجمهورية، إذ سيواجهون عاجلاً أم آجلاً معضلة سياسية، خصوصاً في القانون الانتخابي الحالي، اسمها الحاصل الانتخابي. لأن عباءة الرئيس لن تؤمّن لهم الحاصل المطلوب للحفاظ على مواقعهم، ولن تغنيهم عن ضرورة التفاهم مع القوى الكبيرة لضمان حصولهم على مقعد.
ويدرك التيار أن «بعض من يحيط بالرئيس يريد توريطه في خيارات ستؤدّي إلى تحويله إلى طرف، ما يطيح صورة الرئيس القوي. ولا تصح المقارنة هنا بين ميشال عون الآتي إلى الرئاسة من موقع شعبي والراغب بتقوية كتلته، وجوزيف عون الرئيس المكلّف بمهمة سياسية واضحة المعالم. فأي محاولة لإبعاده عن هذه المهمة وإلهائه بمحاولة بناء زعامة ستُخسّره الأمرين معاً: استكمال المهمة وبناء الزعامة».
من جهته، يسير التيار بخطى هادئة نحو الانتخابات النيابية مستكملاً استراتيجية الانفتاح على القوى السياسية، بشرط أن تتقاطع معه بالحد الأدنى على الخطوط السياسية العريضة. وحتى إن كان يصعب إسقاط نتائج الانتخابات البلدية على الاستحقاق النيابي، إلّا أن كل «المؤشرات تدل على أن التيار يذهب بوضوح نحو خطاب سياسي منفتح وتبنّي خطط إصلاحية ببنيتها وتعتمد على اللامركزية الإدارية، وعلى خيار التفاعل والتواصل مع كل الطوائف ورفض عزل أي طرف أو استهدافه».
وتدرك القيادة جيداً أنها ستواجه منافسة قاسية في مناطق الحضور العوني، لذلك بدأ الإعداد لخطوات من شأنها زيادة حضور التيار، ليخوض المرحلة المقبلة على قاعدة تثبيت موقعه كقوة وازنة قياساً بكل الكتل النيابية، خصوصاً ذات الغالبية المسيحية.
صحيح أن «القوات» سجّلت خرقاً كبيراً في الانتخابات البلدية، لكن من الواضح أنها غير قادرة على ترجمة ذلك بعلاقات تبادلية مع قوى أخرى. ورغم تراجع التيار مقارنة بـ«القوات»، إلّا أنه نجح بالانفتاح على قوى سنّية وازنة وشخصيات مستقلة وتمكّن من إعادة ترميم تفاهمه القديم مع «المردة» إضافة إلى الانفتاح التاريخي على الطائفة الشيعية.
ونجح باسيل في الأشهر الماضية بفكّ عزلته عبر بناء تحالفات واسعة بلدية وضعته جنباً إلى جنب مع من كانوا أعداءه سياسياً في الأمس القريب، وأعاد تثبيت نفسه في المشهد السياسي رغم استبعاده عن التمثيل الحكومي. وأبرز دلالة على ذلك «اللقاءات التي جمعته في الـ 24 ساعة الأخيرة بالموفد السعودي يزيد بن فرحان ورئيس الجمهورية جوزيف عون وقبلها بالبطريرك الماروني بشارة الراعي».
مسيحيو سوريا بين الراعي وباسيل
ناقش النائب جبران باسيل مع البطريرك الماروني بشارة الراعي، في بكركي الخميس الماضي، الوضع المسيحي السوري في سوريا، ربطاً يتفجير كنيسة تفجير كنيسة في دمشق الشهر الماضي. وبحث الطرفان سُبل تأمين حماية المسيحيين في سوريا، وسمع باسيل من البطريرك قلقاً كبيراً حول مصير الطائفة، ولا سيما بعد أن نقل إليه بطاركة سوريا جواً متشائماً لا يُوحي بإمكانية تحسّن الوضع، إضافة إلى نداء لمساعدة السوريين المسيحيين اللاجئين في لبنان، وسط الحديث عن أعداد كبيرة تخطّط لطلب اللجوء قريباً. على المقلب الآخر، تطرّق اللقاء أيضاً إلى سلاح حزب الله وضرورة تنظيمه بالاتفاق والتوافق مع الحزب، لاستعادة الحياة السياسية المستقيمة، ولا سيما مع فقدان «السلاح الصاروخي» قوته وانتهاء وظيفته في مواجهة «السلاح الإلكتروني».