أنطوان الأسمر-
يمرّ لبنان في مرحلة دقيقة تتقاطع فيها الرمزية الروحية مع وقائع سياسية وأمنية معقّدة. فمع زيارة البابا لاوُن الرابع عشر إلى لبنان وما حملته من دلالات تتعلق بدعم الاستقرار، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام سؤال أساسي: هل يمكن للرجاء السياسي، لا العسكري، أن يشكّل خط دفاع أمام احتمالات التصعيد الإسرائيلي المتزايدة؟
في الأسابيع الماضية، تكثّفت الحركة الديبلوماسية نحو بيروت، في مؤشر إلى أن المجتمع الدولي يسعى إلى التقاط صورة أوضح عمّا يجري على الجبهة اللبنانية. ورغم تعدّد المساعي، يدرك لبنان أنه لا يمتلك عملياً قدرة التأثير في مسار الأحداث، وأن هامش المناورة يبقى محدوداً مقارنة بالوزن الإقليمي للصراع.
هذا العجز البنيوي يدفع السلطة السياسية إلى التعويل على الزخم الدولي للتهدئة وعلى أن يحقّق قرار تعيين السفير سيمون كرم بعضاً من الاختراق السياسي المحدود . ولم تعد الديبلوماسية أداة مكمّلة، بل صارت الخيار الوحيد لمحاولة منع الإنزلاق إلى مواجهة شاملة. من هنا، يتعامل اللبنانيون مع الزيارات الدولية كأنها فرص قد تكون الأخيرة لوقف دورة التصعيد. فبينما تسعى العواصم المؤثّرة إلى تثبيت خطوط تماس جديدة أو إعادة ترميم تفاهمات سابقة، يترقب لبنان نتائج هذا الحراك بقلق شديد، مدركاً أن سرعة التطورات قد تتخطّى قدرته على مواكبتها.
في المقابل، تعمد إسرائيل إلى إدارة معركة ضغط نفسي وسياسي عبر تسريبات متكررة عن اقتراب موعد عملية عسكرية واسعة. ولا ريب أنّ تل أبيب تلعب على عامل الوقت، محاولةً استثمار انشغال واشنطن بجبهات أخرى، فضلاً عن التوتر الإقليمي في غزة وسوريا، لتوسيع نطاق عملياتها قبل أن تفرض عليها القوى الكبرى ضوابط جديدة. وما يزيد من حدة المشهد هو التلميح الإسرائيلي إلى احتمال توسيع رقعة المواجهة باتجاه الجنوب السوري، في محاولة لربط الجبهتين وخلق وقائع ميدانية تتيح لها تحسين شروطها في أي تسوية لاحقة.
يقف لبنان أمام مفترق حقيقي: فبين ديبلوماسية تحاول بناء شبكة أمان دولية، وخصم يلوّح بالحرب، تتقلّص خيارات الدولة إلى حدّ شبه معدوم. لا قدرة له على فرض إيقاعه، ولا ضمانات بأنّ المجتمع الدولي قادر على كبح اندفاعة تل أبيب، التي ترى في الظرف الإقليمي فرصة لتعديل التوازنات مع حزب الله وإعادة تشكيل قواعد الاشتباك.
وسط هذا المشهد، يظهر العامل الروحي عبر زيارة البابا كرسالة دعم للاستقرار تماماً كمبادرة سياسية حوارية تتعلّق بالسلاح. وفتحت الزيارة الباب أمام مقاربة فاتيكانية جديدة تؤسّس لمتابعة دقيقة للملف اللبناني بتفاصيله السياسية والاقتصادية والكنسية.
ما يميّز الحركة الفاتيكانية الأخيرة ليس الجانب الرمزي فحسب، بل تبنّي مقاربة مختلفة تتعامل مع لبنان بوصفه ملفاً يحتاج إلى متابعة يومية لا إلى مواقف ظرفية. فالكرسي الرسولي، الذي كان يكتفي سابقاً بالتعبير عن قلقه على الوجود المسيحي ودور الدولة، انتقل إلى موقع أكثر تقدّمية، واضعاً الإصلاح وحصرية السلاح في صلب أولوياته.
البابا أشار بوضوح إلى ضرورة الخروج من منطق السلاح والعنف في إتجاه مساحات حوارية قادرة على نقل البلد من ضفّة إلى أخرى، مع تأمين الغطاء الروحي لهذا الانتقال.
وظهر أن الفاتيكان بات أكثر مباشرة في مقاربته للمشهد المسيحي في لبنان. فالتشرذم داخل القوى المسيحية، وتضارب المصالح، والتعثّر في صوغ رؤية مشتركة لدورهم داخل الدولة، كلها عوامل جعلت البابا يشير بوضوح إلى مسؤولية “السياسيين المسيحيين المعنيين بحياة اللبنانيين”. هذه الرسالة توحي بنفاد صبر دولي من عدم قدرة هذه القوى على الخروج من الانقسامات التي ساهمت في تعطيل المؤسسات وعرقلة كل مسار إصلاحي.
أما اقتصادياً، فيظهر تركيز البابا على أن تكون الإصلاحات “لا تؤذي شباب لبنان” كإشارة إلى أن الفاتيكان يرفض مقاربات تقشفية قد تدفع بالمزيد من اللبنانيين إلى الهجرة. وسيضغط الكرسي الرسولي في اتجاه حلول توازن بين متطلبات التعافي المالي والحفاظ على الخدمات الأساسية، مما يجعل الإصلاح مساراً واقعياً لا عبئاً إضافياً.
كما أبدى البابا نية واضحة بوجوب إعادة ترتيب البيت الكنسي نفسه، عبر رفع مستوى المساءلة وتعزيز الشفافية داخل المؤسسات الرعوية والاجتماعية. تحمل هذه الخطوة دلالتين: الأولى أنّ الفاتيكان يرى أنّ ترميم المؤسسات الكنسية ضرورة للتماسك الاجتماعي، خصوصاً في ظل انهيار معظم شبكات الدعم الرسمية، والثانية أنّ الإصلاح يبدأ من الداخل قبل مطالبة القوى السياسية بالاقتداء.
مع هذه المقاربة الجديدة، يعود الفاتيكان لاعباً مؤثّراً في المشهد اللبناني، ليس من موقع الوصاية، بل من موقع الضغط الهادئ الذي يسعى إلى منع انهيار ما تبقّى من ركائز الدولة والمجتمع. فهل يستطيع لبنان تحويل الرجاء إلى سياسة، أم أنّ الواقع الإقليمي سيبقى أقوى من أي مسعى للحل؟


