لارا الهاشم-
لخمسة أشهر متواصلة اعتكف جزءٌ كبيرٌ من قضاة لبنان بسبب تدهور قيمة رواتبهم وسوء أوضاع قصور العدل من انقطاع التيار الكهربائي وغياب النظافة فيها إلى نقصٍ في القرطاسيّة. يومها واصل القضاة ضغطهم على السلطة السياسيّة للبحث عن سبلٍ تسمح لهم بالعيش بكرامة مع عائلاتهم في ظل انهيار الليرة اللبنانية وارتفاع الأقساط المدرسية وأسعار المحروقات. فقبلَ إقرار المساعدات الماليّة للقطاع العام التي باتت توازي اليوم سبعة أضعاف الراتب الأساسي، كان متوسط راتب القاضي بدرجات متقدّمة يوازي سعر صفيحتي بنزين في حين أن عدداً لا بأس به من القضاة يعمل في قصور عدلٍ بعيدة جغرافياً من مكان سكانه.
في ذاك الوقت تكثّفت الإجتماعات القضائيّة والجمعيات العموميّة والاتّصالات مع مصرف لبنان لإيجاد صيغة تسمح بصرف الرواتب على أساس ثمانية آلاف ليرة لكن من دون أن توصِل المساعي إلى نتيجة إيجابية. وفيما بقيت السلطة السياسيّة غائبة عن مسؤوليّاتها، حلّ القضاء مشكلته بنفسه عبر صرف صندوق تعاضد القضاة مِنَحاً بالفريش دولار تتراوح ما بين ال 500 والألف دولار بحسب درجة كلّ قاضٍ. على هذا الأساس ومع إقرار أوّل دفعة من المساعدات المالية للقطاع العام، قرّر القضاة العودة عن اعتكافهم بعد تطمينات تلقوّها عن جدولة المنح حتى نهاية تموز ووعودٍ باستكمال دفعِها حتى نهاية العام الحالي. لكن مع حلول تموز عاد الحديث عن عودة محتملة للقضاة إلى الإعتكاف بعد التأخّر في دفع مِنح شهري نيسان وأيار.
في هذا الإطار يستغرب أكثر من مصدر قضائي كان في طليعة المعتكفين سابقاً، الحديثَ اليوم عن اعتكاف جديدٍ. فصحيحٌ أنّ القضاة لم يتقاضوا منحتي حزيران وتموز بعد حتى اليوم، لكنّهم متفائلون في هذا المجال إنطلاقاً من أنّهم تقاضوا المنح السّابقة ولو بعد حين. وهنا تضيف المصادر أن احتمال الاعتكاف غير مطروح حالياً لكنّه يبقى وارداً في حالة واحدة وهي توقّف المنح، إذ لن يكون عندها بمقدور القاضي الإنتقال إلى مكان عمله.
في هذا الوقت لا يزال صندوق تعاضد القضاة يشكو من نقصٍ في التمويل. فالأخير يتغذى من رسوم قضائية مقطوعة وأخرى نسبيّة ومن مساهمة الدولة فيه التي أضيف إليها هذا العام اعتمادان، هذا فضلاً عن الهبات التي قد تصلُه. لكنّ تغذية الصندوق لا تزال أقلّ من حاجاته وأبرز أسبابها تدني قيمة الرسوم القضائية التي تبلغ مثلاً 25 ألف ليرة لبنانية لبعض الدعاوى في حين أن تسجيل الوكالة في نقابة المحامين مثلاً يبلغ 10$ وبالتالي فإنّ المقارنة ما بين الإثنين تحتّم إعادة النظر بالرسوم القضائية من قبل المجلس النيابي.
وعلَيه فإنَّ ضعف التغذية هذا تسبّب بطبيعة الحال بتقليص قيمة التقدمات التي كان يستحصل عليها القضاة سابقاً، كالإستشفاء وأقساط المدارس التي تسدّد للمؤسسات المعنيّة بالدولار في حين أنَّ تغطيتها تتم بالليرة اللبنانيّة وعلى سعر صرف لا يتجاوز العشرة آلاف ليرة بالنسبة للتغطية الصحيّة بحسب مصادر قضائية. أما تغطية المدارس فليست شاملة وتتفاوت قيمتها بين مدرسة وأخرى نسبة لحجم القسط.
لكن على الرغم من الصعوبات تؤكد مصادر معنيّة التزام القضاة بقرار متابعة أعمالهم طالما أن القيّمين على انتظام وضعهم المالي ملتزمون بواجباتهم. وفي الموازاة بدأت تظهر ملامح حلِّ لمشكلة قضائية بنيويّة أخرى وهي النقص في أعداد القضاة. فمنذ بدء الإنهيار المالي دخل جزءٌ كبير من القضاة في إجازات غير مدفوعة وآخرون استقالوا أو تقاعدوا ما تسبّب بنقصٍ في المحاكم ولا سيما الإستئنافية منها.
هذه النواقص كان يمكن ملؤها عبر انتداب حوالى المئة قاضٍ ملحقٍ بوزارة العدل، لكنَّ التدخلات السياسة والعراقيل الداخليّة التي تشبه شكل البلاد حالت دون ذلك على مدى عامين تقريباً.
أما اليوم فتتحدّث مصادر في وزارة العدل لtayyar.org عن بارقة أمل في الأفق. إذ أعدّت الوزارة مسودّة بالإنتدابات وأرسلتها إلى مجلس القضاء الأعلى بانتظار موافقته كون صدورها يتم بقرارٍ من وزير العدل بعد موافقة المجلس. وإذا وصل هذه المشروع إلى خواتيمه السعيدة فسيتمّ عندها نقل القضاة المنفردين وقضاة البداية الحاليّين إلى محاكم الإستئناف التي تعاني من النقص الأكبر وسيُنتدب القضاة الملحقون بالوزارة إلى مراكز المنفردين ومن هم في البداية اليوم. عندها ستتحرك عجلة المحاكم التي تتكدّس فيها الملفات حيناً بسبب كسَلِ بعض القضاة وحيناً آخر بسبب ضعف الإمكانات وتراكم المسؤوليّات في ظلّ النقص الحاصل.