انطلقت تحركات السابع عشر من تشرين الأول عام 2019 من وجعٍ شعبي حقيقي ناتج عن أزماتٍ متراكمة وفسادٍ مستشرٍ في مؤسسات الدولة، فخرج الناس إلى الشوارع يطالبون بالإصلاح وبمكافحة الفساد وبإعادة بناء دولة القانون والعدالة! غير أنّ ما بدأ حركةً مطلبية صادقة سرعان ما تحوّل إلى مشروعٍ مشبوهٍ استغلّ وجع الناس وحرف المسار نحو أهدافٍ سياسيةٍ خفية تخدم الخارج أكثر مما تخدم الوطن.
في الأيام الأولى، بدا المشهد عفوياً، لكن سرعان ما ظهرت مؤشرات الاختراق، إذ تسلّل إلى صفوف المحتجين عناصر حزبية ومنظمات غير حكومية ممولة من سفارات، فتمّ استبدال المطالب الاجتماعية بشعارات سياسية حاقدة ركّزت على فريقٍ واحد بعينه، رغم أنّ الفساد في لبنان منظومة متكاملة لا يُعالج بتوجيه الاتهامات الانتقائية! تحوّلت الساحات من أماكن تعبّر عن غضبٍ مشروع إلى منابر للتحريض والتشهير والشتائم، وضاع المضمون الإصلاحي خلف خطاب الكراهية والتعميم.
استُغلّت هذه التحركات من قِبل وسائل إعلامية وجمعيات مدنية تتلقى تمويلاً خارجياً، فصُنع قادة رأي مزيفون وناشطون مدفوعو الأجر يكررون الخطاب ذاته الذي يخدم أجندات محددة. وباتت بعض الخيم في الساحات مراكز توجيه سياسي أكثر مما هي مساحات احتجاج، ففُقدت العفوية وتحوّل الشارع إلى أداة ضغط بيد من أراد تصفية حسابات داخلية وضرب رموز وطنية وسيادية بعينها، ولا سيما العهد والتيار الوطني الحر اللذين حملا مشروع الإصلاح الحقيقي منذ البداية.
وترافق ذلك مع حملة ممنهجة لتشويه صورة الدولة والجيش والمؤسسات، إذ رُفعت شعارات تستهدف الجميع دون تمييز بين الفاسد والنزيه، وتحوّلت حرية التعبير إلى فوضى مفتوحة على التعدي والإساءة… كما تسببت الإغلاقات والاعتصامات العشوائية بشلّ الحركة الاقتصادية وتعميق الانهيار المالي، فهربت الرساميل وتراجعت الثقة بالعملة الوطنية، وبدأت مرحلة الانهيار التي يدفع اللبنانيون ثمنها اليوم من لقمة عيشهم وكرامتهم.
تحوّلت الثورة المزعومة إلى وسيلة لإضعاف الدولة وضرب التحالفات الوطنية والسياسية التي تشكّل ركيزة الاستقرار، وتحوّل الخطاب الإصلاحي إلى حملة ممنهجة تستهدف السيادة وتروّج لتدخلات خارجية تحت شعار “المجتمع المدني”.
وباسم الثورة صُنعت وجوهٌ كاذبة، لبست عباءة الوطنية وهي في الحقيقة أداة تنفيذ لمشاريع تمويلية مرتبطة بمصالح خارجية، سرعان ما انكشف زيفها حين فشلت في صناديق الاقتراع وأظهرت عجزها عن تقديم أي بديل حقيقي.
وبعد مرور السنوات، تبيّن أن ما سُمّي بثورة ١٧ تشرين لم ينتج إصلاحاً ولا تغييراً، بل عمّق الانقسام وضرب الثقة بين اللبنانيين وأضعف مؤسسات الدولة.
لقد سُرقت الثورة من أبنائها الحقيقيين، وحُوّلت إلى مسرح للفوضى والتضليل، فخسرت البلاد اقتصادها واستقرارها، وربحت حفنة من الزعران والمتآمرين ما أرادوه من فوضى وضياع. وهكذا انتهت الحكاية التي بدأت بالأمل وانتهت بالخذلان، بعدما تحوّل الوجع الشعبي إلى أداة في يد من لا يريدون للبنان أن يقوم من جديد.