راجانا حمية –
مع إعلان وقف إطلاق النار وحتى الثامن عشر من الجاري، ترك ما يقرب من 829 ألف نازح مراكز الإيواء وعادوا إلى مدنهم وقراهم، غير أن جزءاً من هؤلاء لم تكتمل عودتهم، إما لأن بيوتهم قد دمّرت كلياً أو لأنها تضرّرت بشكل كبير إذ تصعب الإقامة فيها. وهذا الجزء الذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة ووحدة إدارة المخاطر والكوارث الحكومية بحدود 166 ألفاً توزّع معظمهم بين البيوت المستأجرة وبيوت الضيافة، فيما 4 آلاف منهم لم يحظوا بتلك النعم، فآووا إلى المراكز الجماعية التي يبلغ عددها حتى اللحظة 48. هنا، نروي بعضاً من حياة هؤلاء في قرية بنين، المركز الذي خصصته محافظة بيروت للنازحين
كان اسمها «هيلين»، وكان يفترض أن تولد في أستراليا، مسقط رأس والدتها، وكانت ستحمل جنسيتين وكانت وكانت… لكن، أتت الحرب، فانتهى كل ما سبق. ولدت الطفلة في مدينة كميل شمعون الرياضية في غرفة من «الجبسن بورد» في «قرية بنين»، المركز الذي خصّص من قبل محافظة مدينة بيروت لإيواء النازحين الذين هدّمت بيوتهم أو تضرّرت بشكل كبير ولفظتهم مراكز الإيواء ـــ المدارس مع إعلان وقف إطلاق النار، فلا حملت اسم هيلين ولا جنسيتين، إذ بسبب «احتجاز» الأمن العام لملف والدها منذ أشهر، أعطيت الطفلة شهادة ميلاد باسم والدتها ولم يستطع والدها تالياً الحصول على إفادة من المختار تثبّت صلة قرابته بها. صار عمر بنين أسبوعين. صحيح أن القيمين على القرية، لم يحرموا الصغيرة مما تحتاجه من مكان للمنامة إلى الثياب والحليب والحفاضات و«المغلي» الذي وزّع على «جيرانها»، ولا حتى عائلتها إذ «لم ندفع بدل إجراء عملية الولادة»، تقول زينب العبد قاسم، جدّة الطفلة، إلا أنها ستتذكّر يوماً ما أنها كانت أصغر النازحين عمراً و«بدأت حياتها في مركز إيواء»، تتابع جدّتها.
كثر مثل بنين، قضوا محطات من حياتهم في مراكز للإيواء، وكثر منهم كانت لهم قصص استثنائية في تلك المراكز التي أقاموا فيها مرغمين هرباً من جولات القتل التي مارسها العدو الإسرائيلي. صحيح أن الحرب انطوت بعد 66 يوماً من الوحشية، وأفرغت معظم مراكز الإيواء مع عودة معظم العائلات النازحة إلى قراها وبيوتها، إلا أنّ ملفّ النزوح لم يقفل ولم تعش أعداد من النازحين شعور العودة إلى دفء أمكنتهم، فبقيت صفة النزوح ملتصقة بهم كجلودهم. فاليوم، لا صكوك ملكية ولا بيوت بعد يملكها هؤلاء. انتهت كأنها لم تكن، وفي انتظار أن تعود مطارحهم «كما كانت»، يكملون سيرة نزوحهم في مراكز الإيواء والتي قدّرت المنظمة الدولية للهجرة في آخر تقرير لها عن النزوح أعدادها بحدود 48 موقعاً جماعياً، منها قرية بنين التي تحتضن اليوم ما يقرب من 400 نازح، فيما تتحضر لاستقبال آخرين مع إقفال مبنى تابع لوزارة التربية والتعليم العالي كان يضم ما يقرب من 300 نازح سيتم توزيعهم بين بنين والمراكز الأربعة الأخرى المتبقية في المدينة.
بنين: القرية التي يتوافر فيها كل شيء إلا دفء البيوت
في «كواليس» مدرّجات ملاعب مدينة كميل شمعون الرياضية، قامت «قرية بنين» لإيواء النازحين الذين باتوا بلا مأوى، وهم في غالبيّتهم ممّن هدّمت بيوتهم أو تضرّرت بشكل كبير ولا يملكون ترف استئجار بيوت بعدما ارتفعت أسعارها بشكل كبير، أضف أنهم لم يتقاضوا بعد أي تعويضات. صحيح أن في التسمية ألفة، إلا أن ما قام هناك هو أشبه بتجمّع للنازحين، أكثر من كونه قرية، وإن كان ساكنوه قد حوّلوه مع الوقت إلى مكان يضج بالحياة ويجمع ولا يفرّق، حيث بات كل واحد منهم يعرف قصة الآخر ويتعاطف معها. يتأثّرون بحكايا بعضهم، وإن كانت متشابهة في تفاصيلها: من الهروب من نوبات القصف إلى التسكّع بين مراكز النزوح وصولاً إلى قرية بنين التي يتمنون أن تكون آخر الجولات.
تقع القرية في طبقتين، يفصل بينهما درج ومصطبة تجمع صباحاً الأطفال الهاربين من صفوف «الأونلاين»، الخدمة التعليمية التي تقدّمها جمعية «سما». في الطبقة الأولى، أربعة «أثلام» من الغرف المتلاصقة تفصل بينها ممرّات. وعلى باب كل غرفة، ثمة رقم. هو رقم العائلة التي تسكن فيها. هكذا، باتت تعرف العائلات بين العاملين في القرية بأرقامها. في الرقم كذا، إنوار وبناتها، وفي الأخرى زينب العبد قاسم وعائلتها وفي الثالثة آل خريس وهكذا… تآلف النازحون هناك مع حياتهم الجديدة التي باتت تختصر بغرفة مرقّمة، أشبه بغرف الفنادق، مع الفارق بالرفاهية، وإن كان هؤلاء يجدون في القرية المركز الأكثر اهتماماً بهم لناحية التقديمات.
في الطبقة السفلية، يخفّ عدد «السكّان»، حيث يقتصر وجودهم على العائلات التي يوجد لديها كبار في السن، ليكونوا أقرب إلى الخدمات وفي مقدّمتها «الحمامات وغرف الاستحمام»، أو العائلات ذات الأعداد الكبيرة، حيث خصّصت بعض الغرف هناك لتتّسع لأعداد تتخطى العشرة في الغرفة الواحدة. إضافة إلى غرف النازحين، خصّصت في الطبقة السفلية ثلاثة صفوف لتدريس الطلاب وغرفة للألعاب ومطبخ مركزي وغرف الاستحمام وغرفة الغسيل. وتقع القرية في حدود 62 غرفة مخصّصة للنازحين و6 غرف إضافية خصّصت للعاملين في القرية، وهي عبارة عن «بلوك واحد فقط»، كلّف بناءً وتجهيزاً ما بين «60 إلى 80 ألف دولار»، بحسب مديرة القرية، ريم إسماعيل. واليوم، تتحضر القرية لاستقبال عائلات أخرى، حيث يتمّ تجهيز غرفتين إضافيتين، تقول إسماعيل، مشيرة إلى أنه يحتمل فتح «بلوك» آخر، إلا أن ذلك يرتبط بالموافقات اللازمة من محافظة بلدية بيروت ومجلس الوزراء وتأمين التمويل أيضاً. وإذ جهّزت القرية بنظام للطاقة الشمسية وبخزانات للمياه وبشبكة للإنترنت، إلا أن المشروع لم يلحظ توفير نظام للتدفئة، وهو ما دفع ببعض النازحين إلى شراء «الدفايات» أو حملها معهم من مراكز الإيواء التي كانوا فيها. وخارج الغرف، ابتكر النازحون فسحاتهم، سواء تلك الخاصة التي تجمع أفراد العائلة الواحدة أو العامة التي تعرف من «صف الأراكيل» والكراسي والطاولات المصفوفة بعناية عند زاوية تلك الفسحة نهاراً. أما بالنسبة إلى الخدمات المقدّمة، فهي بحسب إسماعيل، كل الاحتياجات الضرورية للحياة اليومية، التي يجري تأمينها سواء عبر الجمعية وشركائها أو مما تقدّمه الجمعيات عبر محافظة بيروت (مواد تنظيف، حليب وحفاضات للأطفال…)، فيما تكفّل أحد المطاعم بتأمين وجبات يومية ـــ إفطار وغداء وعشاء.
هذا ما تقدّمه بنين وشركاؤها للنازحين. خدمات عامة، لكنها بالنسبة إلى النازحين كافية في ظل تلك الظروف، إذ لم يطلب هؤلاء «زودة عليها»، تقول زينب العبد قاسم، السيّدة التي لجأت وعائلتها إلى القرية بعدما أقفل فندق «الكورال» خدمة النزوح في أجنحته. لم تجد السيدة التي نزحت من بليدا إلى النبطية إلى زفتا… إلى الفندق سوى التوجّه إلى قرية بنين «بعدما قال لنا أحد الأشخاص في الكورال إنه في إمكاننا الذهاب إلى المدينة الرياضية، حيث يوجد مركز نزوح».
منذ تلك اللحظة، تستقر قاسم وعائلتها في القرية بانتظار أن تنفرج الأمور، ولكنها كما غيرها من اللاجئين «رغم ما يؤمنونه لنا، حابة إطلع على الجنوب بترتاح نفسيتي». بالنسبة إليها، فكرة المكوث خارج البيت هو أمر صعب جداً «حتى لو المكان مريح». تلك الفكرة التي هي أقرب إلى الفقد. فالبيت جزء من «ذكرياتنا وحياتنا»، تقول إنوار اسكندر، وكلما كان الضرر كبيراً في البيت، كان الشعور أصعب، هذا ما يقولونه. وإن كانوا اليوم في معظمهم يفضّلون العودة، ولو «لخيمة بجانب البيت»، إلا أن ما يفرمل تلك الأمنية «وجود الأطفال»، تقول اسكندر. وبسبب هؤلاء «تغيّر كل شيء، وانتقلنا للعيش في القرية من أجل بناتي الثلاث». قبل أن تأتي إلى القرية، كانت اسكندر وبناتها يقمن في مدرسة صبحي الصالح الرسمية، ولكن مع قرار وقف إطلاق النار «طلبوا منا الإخلاء ووضعوا أغراضنا في الملعب فاضطررنا إلى البحث عن البديل». ولأن زوج إنوار انقطع عن عمله بسبب الحرب، كان البحث عن بديل مجاني، وهو مركز للإيواء «ولذلك أرشدونا إلى قرية بنين». وبسبب هذه الظروف، بدأت إنوار حياة جديدة في القرية فأصبحت معيلاً بديلاً لزوجها العاطل عن العمل، وباشرت العمل في مجال التنظيف والتنظيم في القرية، كما غيرها من النساء أو الشباب الذين استفادوا من «فرص العمل» التي عملت القرية على تأمينها «من أجل توفير بعض المردود». وتتنوع فرص العمل ما بين التنظيف وتنظيم القرية والإشراف على الغسيل أو توزيع الطعام وغيره من الأعمال المرتبطة بدورة عيش النازحين هناك.
ربيع خريس نازح آخر يقيم اليوم في بنين. لا يعرف الرجل متى سيغادر نزوحه، فلا هو يملك ثمن ترميم بيته في منطقة الخيام ولا قبض تعويضاته ولا هو قادر على العودة إلى عمله بعدما فقد محل الميكانيك الخاص به. «ما عنا لا ناقة ولا جمل»، يقول ربيع الذي لم يخسر فقط بيتاً ومحلاً، وإنما «عين ابني الكبير وأذن وسمع ابني الصغير». هو اليوم مثقل بكل تلك الأمور ولذلك يجد نفسه مكبّلاً. ومثله كثر من «سكان» قرية بنين، الذين ينتظرون اليوم شيئاً ما، ربما هو «الفرج أو أي شيء مماثل»، يقولون. وبانتظار هذا الشيء، سيبقون حيث هم في مراكز الإيواء الجماعية.
العودة غير المكتملة
عقب إعلان وقف إطلاق النار، فرغت معظم مراكز الإيواء التي خصصتها الدولة للنازحين. فما بين الإعلان في السابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي والسابع عشر من الجاري، عاد ما يقرب من 829 ألف نازح إلى ديارهم، غير أن هذه العودة لم تكن كاملة، إذ بقي أكثر من 165 ألف نازح يقيمون خارج بيوتهم، النسبة الغالبة منهم في بيوت للإيجار أو لدى بيوت مضيفة، فيما 4261 نازحاً لا يزالون يقيمون في مراكز جماعية في معظم المحافظات اللبنانية. وتعود هذه الأرقام إلى التقرير الذي أصدرته أخيراً المنظمة الدولية للهجرة ووحدة إدارة مخاطر الكوارث الحكومية عن النزوح، سواء ما يتعلّق بالعائدين إلى بيوتهم أو الذين لا يزالون في «وضعية» النزوح. وهذا التقرير هو الأول منذ ما بعد وقف إطلاق النار ويغطي المدة الممتدة من 27 تشرين الثاني وحتى الـ18 من الجاري، ويتناول شقين: أولهما عدد العائدين وأماكن تواجدهم وثانيهما عدد النازحين وأماكن تواجدهم.
في الشق الأول من العودة، ونتيجة لرصد حركة عودة النازحين داخلياً، تستعيد محافظة النبطية بعضاً من سكانها، وتحديداً في قضاء النبطية، حيث سجّل عودة ما يقارب 245 ألفاً، أما ما يعادل 30% من إجمالي عدد العائدين، تليها محافظة الجنوب وبالتحديد قضاء صور، حيث عاد حوالى 137 ألف شخص، فيما بلغ عدد العائدين إلى قضاء بعلبك في محافظة بعلبك ـــ الهرمل ما يقارب 132 ألفاً ومن ثم صيدا مع عودة 126 ألفاً تقريباً ومن بعدها بعبدا في محافظة جبل لبنان مع رجوع 86 ألفاً. يذكر أن 90% من العائدين سجلت عودتهم من خمس مناطق أساسية، أولها منطقة بيروت، حيث قدرت النسبة بـ54%، أي ما يقارب 445 ألفاً وزحلة بنسبة 13% (108 آلاف) و10% من الشوف (87 ألفاً) و7% من صيدا (54 ألفاً) و6% من بعلبك (51 ألفاً)، فيما 10% كانوا موزعين على 15 منطقة أخرى.
لكن، رغم زخم العودة، إلا أنه لا يمكن اعتبارها عودة دائمة ونهائية، إذ يظلّ جزء لا بأس به من هؤلاء في حالة تنقّل. والحديث هنا عن عدد يقارب الـ166 ألفاً (على وجه التحديد 165428) لا زالوا ضمن وضعية النزوح، وهم من هدّمت بيوتهم أو تضرّرت بشكل كبير، وكان الخيار أمام هؤلاء إما الإقامة في «أماكن استضافة»، مع عائلات غير نازحة من الأقرباء أو الأصدقاء (39%) أو استئجار البيوت (56%) أو الإقامة في مواقع جماعية. ويحصي التقرير وجود 48 موقعاً جماعياً جرى تسجيلها حتى الثامن عشر من الجاري، ويقيم فيها بحدود 4261 نازحاً (2%)، وتتوزع هذه المراكز الجماعية في معظم المحافظات، النسبة الأكبر منها في محافظة بعلبك ــ الهرمل (39%) تليها محافظة البقاع (25%) وبيروت (6%) و2% على التوالي للمراكز الجماعية في النبطية والجنوب والشمال، فيما سجل رقم 1% ضمن خانة خيارات «أخرى»، التي تشمل اللاجئين إلى المباني غير المكتملة أو الخيام أو الحدائق وحتى الشوارع. بغض النظر عمن عادوا إلى بيوتهم أو من بقوا خارجها، لم تنقطع بعد حاجة هؤلاء إلى المساعدة، فالجدران التي تؤوي لا تطعم، ولذلك تعمد وحدة إدارة المخاطر والكوارث الحكومية لاستكمال البرنامج الذي بدأته مع المنظمات الدولية خلال الحرب من أجل توفير الاحتياجات الضرورية من مساعدات عينية ومواد غذائية. ويضغط رئيس الوحدة، وزير البيئة ناصر ياسين، على المنظمات للإبقاء على الآلية السابقة عبر التواصل مع المحافظين واتحادات البلديات للاطلاع على احتياجات هؤلاء والالتزام تالياً برقم محدّد للتمويل، مع مراعاة قاعدة أساسية وهي الأخذ في الحسبان اللوائح المرفقة من اتحادات البلديات والمحافظين لمعرفة دقيقة بالواقع وبمن هم بحاجة «إذ لا تقتصر الحاجة على من بقوا خارج بيوتهم وإنما أيضاً من هم في البيوت»، تقول مصادر اللجنة. ومن جهة أخرى، ثمة حاجة ملحّة إلى انخراط وزارات أخرى في ورشة ما بعد الحرب في إطار توفير الاحتياجات التي باتت أكثر إلحاحاً اليوم مع الشح في المساعدات، ومن بينها وزارة الشؤون الاجتماعية لإعادة النظر بلوائحها في ما يخص تقديراتها للأسر الأشد فقراً والعمل مع المنظمات الدولية لتوفير احتياجات هؤلاء.