رسالة شكر الى كل الأحبة،
مع إقتراب نهاية مسيرتي المهنية في القضاء، وبعد أربعين عامًا من العمل الدؤوب الصادق في خدمة العدالة وفي الدفاع عن الحقوق والتصدي للجريمة والفساد، لا يسعني إلا أن أعبر عن عمق شكري وامتناني لكل اوادم بلادي الذين وقفوا إلى جانبي في أحلك الظروف، من محامين واصدقاء وأناس طيبين، رفعوا الصوت عاليا دفاعا عن قاضية تجرأت على المنظومة حيث لا يجرؤ الآخرون، وقفوا بجرأة في الشارع او في وسائل الاعلام ليس فقط دفاعا عني بل أيضا دفاعا عن حقوقهم الشرعية في العيش بكرامة في كنف عدالة حقة تحمي حقوقهم وتعطي الامل لاولادهم. افتخر بالطبع بكل ما حققته في هذه السنين الطوال وخاصة في النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، لكن أفتخر أكثر بثقة الناس ومحبتهم.
في عملي كنائب عام استئنافي، وأمام ثقل المسؤولية، وفي مرحلة عصيبة كانت تمر بها البلاد نتيجة الانهيار النقدي والاقتصادي، وجدت أن منهجي في العمل لا يجب ان يقتصر على تسيير اعمال الملاحقة العادية إنما أيضا على التصدي لكل جريمة مهما علا شأن مرتكبها ونفوذه. هنا حصلت البلوى أو المواجهة الكبرى مع منظومة فاسدة كانت تسيطر على القضاء. فتعرضت لأبشع انواع الاضطهاد، لا من الخارج فقط بل وخاصة من أهل البيت !! من أهل القضاء، لا لسبب إلا لأني تجرأت على مافيا السرقة والفساد وقررت فضح ارتكاباتها، مع العلم اني لم افتح سوى الجزء اليسير من هذه الملفات، فأدركت عندها كم هي معاناة هذا الشعب مع منظومة شريرة أكلت الأخضر واليابس، واستولت على مقدرات البلاد وهجرت شبابه… صورة بشعة مخزية لم استطع السكوت عنها فقررت المواجهة.
تألمت كثيرا… لكن صليت اكثر. فكان الرب الى جانبي لحمايتي من مكائدهم وشرهم. تمسكت بالإيمان فتحملت وقاومت كل الاضطهادات من ملاحقات تأديبية مفترية وجائرة هدفها فقط التخلص من قاضية مزعجة تؤرق المنظومة، الى التنمر والشتم في وسائل الاعلام، الى اتهامات باطلة بالتسييس عندما لم يجدوا شيئا في ملفاتي، الى محاصرتي قضائيا من قبل مدعي عام التمييز الذي لا يحق له مطلقا وقف مدعي عام استئنافي عن العمل بقرار غير قانوني معروف المصدر، وليتبعه بعد ذلك رئيس الوزراء السابق بتعميم هذا القرار الباطل على الدوائر والمؤسسات الحكومية، متجاوزا بشكل فاضح مبدأ فصل السلطات. يا أحبة يا غاليين من قال ان حاكم مصرف لبنان هو وحده المرتكبب !… لا، غير صحيح، هناك منظومة كبيرة استفادت من وجوده وفساده وجنت المغانم الى جانبه يقتضي ايضا ان تكون موضع مساءلة….وما هجومهم علي بعد فتح ملفات رياض سلامة وملف أوبتيموم وملفات المصارف وغيرها الا لحماية هذه المنظومة. لكن السؤال يبقى: إلى متى الافلات من العقاب، الى متى القبول بهذا الامر الواقع المخزي، وهل العهد الجديد سيسير بهذا النهج؟؟
المهم انه رغم كل الاضطهادات استمريت، فكان إيماني أقوى من فسادهم، أقوى من مكائدهم، إيماني بأن العدالة ليست مجرد وظيفة أو قوانين نطبقها، أو مركز نتبجح به، بل قبل كل شيء رسالة ضمير ومسؤولية، رسالة تدين أعمال الظلمة وتتمسك بإعلاء الحق، رسالة لا يستحق أن يحملها إلا القاضي صاحب الضمير الحي الذي لا يتراجع ولا يساوم أمام أي ترغيب او ترهيب. للأسف الواقع القضائي حتى تاريخه ليس على هذه الصورة، لن أقول ان العدالة أصبحت عندنا نقمة، لأني لا زلت اؤمن بوجود قضاة وقاضيات ولو قلة يستطيعون إكمال المسيرة وتغيير الواقع المرير.
اليوم وأنا أختتم هذه الحقبة من حياتي، لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر الى كل من كان جزءًا من هذه المسيرة. شكرًا لزملائي القضاة في النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان الذين شاركوني عبء المسؤولية، شكرًا للموظفين الذين عملوا معي بجهودهم الصادقة التي جعلت العمل أكثر فائدة وإنسانية. شكرًا لكل الناس الطيبين الذين وقفوا الى جانبي، آمنوا برسالتي ودعموني بالقول والفعل، سواء بكلمة طيبة أو بعمل صادق، او بانتفاضة شجاعة أو بدعاء وصلاة.
ولن انسى ان استذكر كل من الزميلين العزيزين القاضيين سامر غانم ونادر منصور الذين غادرانا باكرا. لروحهما الطيبة كل الرحمه…
أما أحبائي، عائلتي وأصدقائي، فأنتم كنتم دائما السند القوي، الذي منحني القدرة على الإستمرار في أحلك الظروف، لكم مني كل الحب والامتنان.
سأبدأ اليوم فصلاً جديدًا من حياتي، سافسح المجال فيه للهدوء والتأمل، للراحة بعد عقود من الجهد… لكنني لن اتقاعد، فلا تقاعد عن النضال من أجل عدالة حقة، العدالة التي ليست وظيفة تنتهي بالتقاعد، بل روحا حية نابضة في القلب والعقل.
فإلى اللقاء يا احبائي في صفحات أخرى من الحياة، وفي مساحات أرحب من الفكر والعمل. في الجهد الدؤوب من اجل ان يصبح لبناننا أكثر عدالة وانسانية.
القاضية غادة جورج عون