السلام المشرقي: الرؤية الأميركية لما بعد غزّة!

أنطوان الأسمر

قدّم الموفد الرئاسي السفير توم براك، في تغريدته المطولة، مرافعة فكرية شاملة لمصلحة ما يمكن وصفه بمشروع السلام المشرقي الذي يعمل عليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفريقه، باعتباره استكمالًا عمليًا لمسار اتفاقات أبراهام ولكن هذه المرة في المشرق، لا في الخليج.
يطرح براك رؤيته على أنها تأمل شخصي، لكنها في الواقع وثيقة تعبّر عن السياسة الأميركية الفعلية في هذه المرحلة، خصوصًا في ظل إعادة تموضع واشنطن في الشرق الأوسط بعد حرب غزّة، ومحاولتها ربط الاستقرار السياسي بالازدهار الاقتصادي تحت شعار سلام مقابل ازدهار.
يعتبر براك أن المرحلة المقبلة تقتضي الانتقال من منطق العقوبات إلى منطق إعادة الإعمار في سوريا، مقدّمًا تبريرًا واضحًا لرفع أو تعليق قانون قيصر الذي فرض عزلة اقتصادية خانقة على دمشق.
في رأيه، تغيّر النظام السوري بعد 2024، والأولوية الآن ليست المحاسبة على الحرب، بل إعادة بناء الدولة والانفتاح على الإقليم الجديد. هذه الفكرة تمثّل انعطافة في الخطاب الأميركي، إذ تشير إلى انفتاح مشروط على الإدارة السورية الجديدة، يقوم على صفقة ثلاثية الأبعاد:
أ-اتفاق أمني مع إسرائيل يضمن ضبط الجبهة الجنوبية.
ب-إشراك رؤوس أموال أميركية وخليجية في عملية إعادة الإعمار.
ج-عودة سوريا إلى النظام الإقليمي الجديد الذي تقوده واشنطن والخليج.
هذا المسار تزامن مع تعديل تشريعي طرحه السيناتور ليندسي غراهام، يقضي بوضع آلية رقابة ومساءلة في حال تعليق أو إلغاء قانون قيصر. الهدف من التعديل ليس رفع العقوبات فورًا، بل ضمان أن أي خطوة من هذا النوع تخضع لتقييم دوري وعلني يُرفع إلى الكونغرس، حتى لا تكون المسألة مجرد قرار سياسي عابر في البيت الأبيض.
في جوهر الأمر، يعكس هذا التعديل موقفًا متشدّدًا من الكونغرس تجاه دمشق، ويشير إلى انقسام داخلي في واشنطن بين من يرى ضرورة اختبار الانفتاح الاقتصادي كوسيلة لإبقاء الضغط على القيادة السورية، تحديداً في علاقتها مع إسرائيل، ومن يصرّ على أن أي تطبيع معها يجب أن يُربط بتغييرات ملموسة في السلوك السياسي والحقوقي.
في المقابل، يرسم براك خريطة طريق أكثر صرامة للبنان. فهو يرى أن نزع سلاح حزب الله هو المدخل الإجباري لأي تسوية إقليمية تشمل لبنان، وأن استمرار هيمنة الحزب يجعل البلد رهينة محور معادٍ للاستقرار.
يحذّر براك من أن إسرائيل ستتدخّل عسكريًا حتمًا إذا لم يتحرّك لبنان، محمّلاً الحزب مسؤولية الانهيار الاقتصادي والسياسي. ويضع أمام اللبنانيين خيارين لا ثالث لهما:
أ-إما الانخراط في تسوية شاملة تؤدي إلى التطبيع التدريجي مع إسرائيل والانضمام إلى المنظومة الاقتصادية الإقليمية الجديدة.
ب-أو مواجهة عزلة وانهيار إضافي تحت وطأة العقوبات والضغوط الدولية.
بذلك، يوجّه براك رسائل ثلاثًا مترابطة:
* إلى سوريا: التطبيع مع إسرائيل هو بوابة الإعمار ورفع العقوبات.
* إلى لبنان: التخلص من سلاح حزب الله شرط للانضمام إلى النظام الاقتصادي الجديد.
* إلى إيران: أنتم الخطر الوحيد المتبقّي في الشرق الأوسط الجديد.
في العمق، لا يقدّم براك مقالة تحليلية بقدر ما يعرض خطة سياسية – اقتصادية مترابطة تنتمي إلى ما يمكن تسميته صفقة القرن – النسخة الثانية. هذه المرة، لا يقوم المشروع على ترسيم حدود أو فرض حلول آنية للنزاعات، بل على إعادة بناء المشرق كمنطقة مصالح اقتصادية متداخلة، تذوب فيها الحواجز الإيديولوجية والطائفية لمصلحة شراكات استثمارية كبرى في الطاقة، والبنى التحتية، والاتصالات، والتكنولوجيا.
من هذا المنظور، يصبح الاستقرار الأمني نتيجة لا شرطًا، ويُعاد تعريف السلام باعتباره شرطًا للازدهار والانخراط في النظام العالمي الجديد الذي تقوده واشنطن عبر الممرات الاقتصادية من المتوسط إلى الخليج.
لا يعبّر براك عن نفسه فقط، فهو أحد عرّابي التسوية الأميركية – العربية – الإسرائيلية الكبرى التي يجري التحضير لها خلف الكواليس، ويضع سوريا ولبنان في قلب مرحلة ما بعد غزّة. فالاستقرار في المشرق، بحسب منطقه، يعني التطبيع مع إسرائيل، والإعمار يعني فك الارتباط مع المحور الإيراني، والسلام يعني الاصطفاف ضمن المظلّة الاقتصادية – السياسية الناشئة.
وبغض النظر عمّن يتولّى الملف اللبناني، سواء بقي براك في الواجهة أو انتقل الدور إلى السفير ميشال عيسى، تبقى هذه الأفكار محدّدات السياسة الأميركية للمشرق في السنوات الثلاث المقبلة، ومحركًا أساسياً لإعادة رسم التوازنات في سوريا ولبنان على حد سواء.

You might also like