الديار: عبد المنعم علي عيسى-
من الصعب اليوم رسم إحاطة تامة للآثار التي تخلفها ظاهرة الخطف المستمرة عند السوريين، خصوصا أن الغالبية الساحقة تطال نساء من طائفة واحدة.
وإذا كان طبيعيا أن تبادر أي عائلة للإبلاغ عن أي حادثة اختفاء لإحدى بناتها، بل ولطلب المساعدة من السلطات الرسمية،إلا أن هذا الأمر كثيرا ما كان يصيب العوائل بآثار اجتماعية، يمكن لها أن تكون من النوع طويل الأمد.
هذا ناجم بالدرجة الأولى عن طريقة تعاطي تلك السلطات مع هكذا نوع من الحالات، فحتى لو تكشف أن أي بلاغ مقدم لها ليس من النوع الذي تنطبق علية صفة «الخطف» بمعناها الدقيق،فهذا يجب ألا يستخدم كذريعة لإنكار تلك الظاهرة، أو محاولة استخدامها بطريقة من شأنها ترك «ندبات» على سطوح مجتمعية باتت شديدة الهشاشة، وحدوث هذا يمثل تواطؤا مع الخاطفين في الحالة الأولى،ومع الذاهبين لتفكيك عرى النسيج المجتمعي في الحالة الأخيرة.
وإذا كانت تلك الظاهرة قد أضحت منتشرة منذ بداية الأحداث السورية ربيع العام 2011،فإن الكثير من الآمال قد انعقدت على إمكان تلاشيها،إلا أن ما حدث كان العكس،فالظاهرة أضحت أكثر شيوعا مما قبل. وما زاد في الأمر سوءا هو أن المعالجات الجارية لمحاصرتها، تبدو غير مدركة تماما للنتائج التي يمكن لتلك الظاهرة أن تراكمها.
ومن الواضح أن العديد من ممارسات السلطة تسعى إلى تغييب تلك الظاهرة،بمعنى إبعادها عن دوائر الضوء فحسب،الأمر الذي يمكن لمسه عبر العديد من المؤشرات. فقد أعلنت روزا ياسين حسن،وهي ناشطة في صفحة «أوقفوا خطف النساء السوريات»، وابنة المفكر السوري الراحل أبو علي ياسين،في منشور لها على «فيسبوك» قبل أيام،أنه «تم إغلاق صفحتي»، وأضافت إن <ذلك ليس صدفة،فالحملة تتعرض لهجوم واضح بغرض إسكاتها».
والجدير ذكره أنه وغداة المؤتمر الصحافي لنور الدين البابا،المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية،الذي عقده يوم 2 تشرين الثاني الجاري بغرض الإعلان عن النتائج التي توصلت إليها <لجنة التحقيق الخاصة» بحالات اختطاف نساء،وجاء فيه إن اللجنة «حققت على مدى ثلاثة أشهر في 42 ادعاء بخطف نساء في محافظات طرطوس واللاذقية وحمص وحماة>،وإن اللجنة خلصت إلى أن <حالة واحدة منها كانت فقط حالة خطف»،كانت روزا حسن قد كتبت عن ذلك التقرير الذي أصدرته اللجنة، أنه «أشبه بإعلان نفير عام رمزي ضد النساء السوريات»،وأضافت أن <أقل ما يقال فيه إنه شائن،ويتهم نساء الطائفة العلوية بأخلاقهن،والتزاماتهن الاجتماعية»،ويحولهن وذويهن إلى متهمات ومتهمين».
وما يؤكد على ما ذهبت إليه هذه المنشورات السابقة،هو أن بيان الداخلية الذي صنف بعض تلك الحالات تحت بند <الهروب الطوعي مع شريك عاطفي»،والبعض الآخر تحت بند «الهروب من العنف الأسري»،إلى جانب تصنيفه لبعض منها تحت بند <التورط في الدعارة والابتزاز»،كان قد تجاهل تماما رزمة من المعطيات الموثوق بها، التي أوردتها تحقيقات استقصائية للعديد من الوكالات الدولية.
فقد ذكر تقرير لوكالة <رويترز» نشر شهر حزيران الفائت،إن «ما لا يقل عن 33 امرأة وفتاة من الطائفة العلوية،تتراوح أعمارهن بين 16 – 39 عاما،تعرضن للخطف أو الاختفاء هذا العام،في ظل الاضطرابات التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد». كما ذكر رئيس <لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا» باولو سيرجيو بينيرو،في إحاطة كان قدمها شهر حزيران الفائت أيضا أمام «مجلس حقوق الإنسان»، أن «اللجنة وثقت اختطاف 6 نساء علويات على الأقل في ربيع هذا العام،على يد مجهولين في عدة محافظات سورية». وبدورها أصدرت «منظمة العفو الدولية» بيانا لها نشرته يوم 28 تموز الفائت، أشارت فيه إلى أنها «تلقت تقارير موثقة تفيد بخطف ما لا يقل عن 36 امرأة وفتاة من الطائفة العلوية،تتراوح أعمارهن بين 3 – 40 سنة،في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص».
وعليه، فإن بيان الداخلية الذي تجاهل كل التقارير التي أصدرتها تلك المنظمات، التي تحظى بموثوقية دولية،لا يغدو إنكارا لواقع معين فحسب،بل محاولة لتشويه سمعة الفتيات وعوائلهن،وإلحاق ضرر فادح بالتركيبة المجتمعية، عبر وسم مكون هام فيها بصفات «لا أخلاقية».
ومن الناحية المهنية،لا يمكن بأي حال من الأحوال،الركون إلى النتائج التي خلصت إليها اللجنة التي شكلتها وزارة الداخلية السورية، بغرض الوقوف على «دعاوى الخطف» المقدمة إلى ديوانها،والتي عرض لها المتحدث باسمها نور الدين البابا في مؤتمره الذي عقده مطلع شهر تشرين الجاري. فاللجنة،التي لم يتم الإعلان عن أسماء أعضائها مما يفقدها الشفافية،غابت عنها مراعاة المعايير التي يستوجب أخذها بعين الاعتبار،إذا أريد لنتائجها أن تحظى بمصداقية من نوع ما. وبرغم أنها كانت تحقق في جرائم تستهدف نساء،ومن جماعة أهلية محددة،فهي لم تضم أيا من الممثلين عن الناجيات،أو ممثلين عن اللواتي لم يزلن قيد الاختطاف،ولذا فقد كان طبيعيا أن يحظى بيان الداخلية بالكثير من الاستهجان على نحو ما فعله ناشطون،وحملات معنية بتلك الظاهرة.
فبعد أيام على صدور هذا البيان الأخير،أصدرت صفحات وحملات مثل «حملة وينن – اللوبي النسوي السوري»،وحملة <دولتي»،وحملة « أوقفوا خطف النساء السوريات»،وحملة <النساء الآن من أجل التنمية – لبنان»،بيانا مشتركا جاء فيه إن «تجاهل المعايير المعتمدة في التحقيق بجرائم العنف الجنسي،والخطف،يفضي بالضرورة إلى نتائج بعيدة عن الحقيقة،لأن هذه المعايير ليست شكلية،بل تؤدي وظيفة جوهرية في ضمان العدالة،والوصول إلى الحقيقة».
تهدد ظاهرة الخطف المنتشرة في مناطق الساحل السوري،وأرياف حمص وحماة،والتي وثقتها العديد من المنظمات الدولية بالعديد من تقاريرها،السلم الأهلي في البلاد. ومن الجائز أن تكون لتراكماتها تأثيرات تفوق تلك الناجمة عن <السلب والابتزاز»،بل وحتى الناجمة عن القتل أيضا. فالندوب التي تتركها تلك الظاهرة على الدائرتين الضيقة و في المحيط لذوي المخطوفة،كفيلة بخلق احتقانات ذات طابع تراكمي،وهي لن تلبث أن تذهب إلى تغييرات في طبيعة السلوك الجمعي،خصوصا إذا حتم هذا الأخير بانتفاء الخيارات المتاحة أمامه.


