تتجه التعيينات الماليّة تدريجياً نحو تسويات يمكن الاتّفاق عليها بين الرؤساء الثلاثة، سواء على مستوى نوّاب الحاكم، أو رئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف. لم تنضج التفاهمات وفق صيغة نهائيّة، غير أنّ معالمها الأساسيّة باتت تتضّح شيئاً فشيئاً، وهو ما يوحي أنّ الشغور في هذه المراكز لن يطول كما حصل مع حاكميّة المصرف المركزي بعد انتهاء ولاية رياض سلامة في صيف العام 2023.
غير أنّ التجاذب الذي جرى طوال الأسابيع الماضية، بما يخص هذه المراكز، لم يكن بعيداً عن حسابات الأطراف المختلفة، بما يخص مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أو بمسألة “توزيع الخسائر” المرتبطة بهذا القطاع. والنقاش حول هويّة الأشخاص الذين سيُعيّنون في هذه المناصب، كان يجد صداه في نقاش موازٍ، حول صلاحيّات هذه المناصب في مشروع قانون إعادة الهيكلة (أو “إصلاح أوضاع المصارف” وفق التسمية الرسميّة لهذا القانون).
نوّاب الحاكم خلال إعادة الهيكلة
الصلاحيّات الأساسيّة لنوّاب حاكم مصرف تتركّز في الجانب النقدي من عمل المصرف المركزي، انطلاقاً من دورهم كأعضاء حكميين في المجلس المركزي لمصرف لبنان، المكلّف بإدارة السياسة النقديّة. النوّاب الأربعة، وخامسهم الحاكم، يمثّلون معاً الثقل الأساسي داخل هذا المجلس، إلى جانب مديريّ وزارتيّ الماليّة والاقتصاد.
لكن بالإضافة إلى هذا الدور، ثمّة دور خاص “لأحد نوّاب الحاكم”، الذي يختاره المجلس المركزي ليكون عضواً في الهيئة المصرفيّة العليا، المختصّة باتخاذ الإجراءات التدبيريّة أو التصحيحيّة بحق المصارف المخالفة أو المتعثّرة. فضلاً عن كل ذلك، لا يمتلك نوّاب الحاكم صلاحيّات داخليّة جديّة في المصرف، إلا بحدود التكليفات الصادرة عن الحاكم وحده.
لن تغيّر القوانين الإصلاحيّة المطروحة حالياً من دور نوّاب الحاكم. مشروع قانون الحكومة لإصلاح أوضاع المصارف عدّل تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا، لكنّه أبقى على عضويّة “أحد نوّاب الحاكم” وفقاً لاختيار المجلس المركزي. والصيغة المضادّة التي طرحها حاكم مصرف لبنان استحدثت هيئة جديدة وطارئة لإدارة إعادة الهيكلة، بدل أن تضطلع الهيئة المصرفيّة العليا بهذا الدور، لكنّه اقترح إضافة عضوين إلى هذه الهيئة من نوّاب الحاكم، وبحسب اختيار المجلس المركزي أيضاً.
إذاً، ثمّة دور خاص سيلعبه أحد نوّاب الحاكم -على الأقل- في عمليّة إعادة الهيكلة، سواء طُبّقت القوانين الحاليّة، أو تم تطبيق مشروع القانون المُقترح من الحكومة، أو تم العمل باقتراح الحاكم. وهويّة نوّاب الحاكم، بحسب التعيينات الحاليّة، ستقرّر تركيبة المجلس المركزي لمصرف لبنان، الذي سيقرّر بدوره هويّة هذا العضو (أو هويّة العضوين بحسب اقتراح الحاكم)، الذي سينضم إلى الهيئة المصرفيّة العليا أو الهيئة الطارئة المستحدثة، والذي سيلعب دوراً في عمليّة اتخاذ القرار بشأن المصارف المتعثرة أو المخالفة.
التجاذب الصامت: منصوري وسعيد
في ضوء هذا الدور المنتظر، “لأحد نوّاب الحاكم”، يمكن فهم التجاذب الصامت الذي شهده مصرف لبنان خلال الفترة الماضية، بين الحاكم الجديد كريم سعيد، وأبرز نوّابه وأكثرهم تصدّراً داخل المصرف، وسيم منصوري.
وفي حقيقة الأمر، كان هذا التجاذب قد بدأ قبل أن تطأ قدميّ سعيد أروقة مصرف لبنان. أي في الأيام التي فصلت ما بين تعيين سعيد في مجلس الوزراء، وتسلّمه الصلاحيّات لاحقاً من منصوري (منصوري كان -بصفته النائب الأوّل- حاكماً بالإنابة، بعد رحيل رياض سلامة، وقبل تعيين سعيد).
ويُشار هنا، بحسب بعض المصادر من داخل المصرف، إلى بعض القرارات الاستباقيّة التي اتخذها منصوري بصفته حاكماً بالإنابة، في هذه الفترة الزمنيّة بالذات، أي في الأيّام الأخيرة قُبيل تسليمه الصلاحيّات لكريم سعيد. ومن هذه القرارات مثلاً، التعيينات الإداريّة، التي رفّعت بعض الموظفين وسلّمتهم بعض المناصب الحسّاسة داخل المصرف، والتي ستحشر كريم سعيد لاحقاً في المناقلات الداخليّة داخل مصرف لبنان. وفي السياق نفسه، جاء قرار منصوري المتعلّق بعمل المصارف في السوق الموازية وشراء الدولارات، والذي ألغى قرارات سابقة حظرت هذا الأمر (وهذا ما شرّع بعض هذه العمليّات التي كانت تقوم بها المصارف بالفعل، قبل قرار منصوري).
في لحظة التسلّم والتسليم بين الرجلين، كان سعيد قد رأى كل هذه الضربات الاستباقيّة. ولم يكن من باب المصادفة أن يشير الحاكم الجديد-خلال حفل التسلّم- إلى أنّ قيادة المصرف ستبتعد عن الظهور الإعلامي، وستتواصل مع الجمهور من خلال البيانات والتقارير. كانت تلك الإشارة تطويقاً مباشراً لنائبه الأوّل، وسيم منصوري، الشديد الولع بهذا النوع من الإطلالات. ومنذ تلك اللحظة، كانت سياسة قائمة على ضبط عمل منصوري داخل المصرف، وحدّ عمله في النطاق الأدنى. وكما أشرنا سابقاً، لا يملك نوّاب الحاكم أساساً أي صلاحيّات داخليّة، إلا في نطاق ما يكلّفهم به الحاكم.
في السجال المالي حول التعيينات الماليّة، لم يكن من السهل على رئيس مجلس النوّاب تمرير إسم منصوري، في مثل هذه الأجواء المحتدّة. بل وكان تمرير إسمه صعباً، بالنظر إلى الاتجاه لتغيير جميع نوّاب الحاكم، ما يجعل تمديد ولاية منصوري وحده مسألة نافرة. لكن في خلاصة التجاذب حول التعيينات، بات ثمّة اتجاه لتغيير نائبين من أصل أربعة نوّاب، مقابل التجديد لنائبين من بينهما منصوري. أمّا الدور الذي سيلعبه منصوري في حال تجديد ولايته في مصرف لبنان، فما زال غامضاً حتّى هذه اللحظة.
رئيس لجنة الرقابة على المصارف
السجال حول رئاسة لجنة الرقابة على المصارف، لم يبتعد بدوره عن حسابات إعادة الهيكلة. فمنذ البداية، حاولت الحكومة تعزيز دور هذه اللجنة، عبر إعطاء رئيسها حق العضويّة في الهيئة المصرفيّة العليا، مع امتلاك حق التصويت. وكانت تلك الخطوة التصحيحيّة إعادة تقويم لوضع شائك منذ العام 1967، حين اقتصر دور اللجنة -بحسب القانون الذي أوجدها- على تقديم التقارير الرقابيّة إلى حاكم مصرف لبنان، من دون امتلاك القدرة على إثارة أي مسألة داخل الهيئة المصرفيّة العليا.
في مقابل هذا الطرح، امتلك الحاكم الجديد كريم سعيد -منذ اللحظة الأولى- مقاربة مختلفة كلياً، إذ فضّل في الطرح الذي قدّمه إعطاء رئيس اللجنة حق حضور اجتماعات اللجنة المُستحدثة لإعادة الهيكلة، لإيضاح بعض المسائل، من دون أن يمتلك حق التصويت، أو حتّى حق العضويّة الكاملة. هكذا، كان ثمّة حساسيّة بالغة من البداية، إزاء أي محاولة لتوسيع صلاحيّات لجنة الرقابة، أو لإعطائها المزيد من الاستقلاليّة في علاقتها مع حاكم مصرف لبنان.
فيما كان التجاذب جارياً في مجلس النوّاب، بخصوص الصيغة الأخيرة لقانون إصلاح أوضاع المصارف، كان ثمّة سجال موازي بشأن هويّة رئيس لجنة الرقابة نفسها، مع التحفّظات التي أبداها في البداية الحاكم اتجاه الإسم المطروح من رئاسة الحكومة لهذا المنصب، أي مازن سويد. وفي خلاصة هذا التجاذب، باتت الأمور تتجه اليوم لقبول إسم سويد، ضمن سلّة الأسماء الشاملة التي ستضم أعضاء اللجنة ونوّاب الحاكم. أمّا هامش الحركة التي سيمتلكه سويد لاحقاً، فسيبقى محكوماً بالصيغة النهائيّة لقانون إصلاح أوضاع المصارف، الذي سيحدّد توزيع الصلاحيّات خلال عمليّة إعادة الهيكلة.
هكذا، كان السجال المتصل بالتعيينات مرتبطاً بالسجال المتصل بالصلاحيّات. لكنّ التسوية والتوافق بخصوص الأسماء، لن يعالج الخلاف المستمر حول الصلاحيّات، والذي سيُحسم أخيراً في المجلس النيابي. وقانون إعادة الهيكلة ما زال عالقاً في لجنة المال والموازنة، بانتظار حصول اتفاق بين الحكومة ومصرف لبنان على الصيغة الأخيرة للقانون، أو بانتظار البت بشأن الخلاف من خلال التصويت في المجلس.
increase
حجم الخط