الأخبار: يشرح مسار الشرع كيف يحوّل سوريا إلى ساحة مزايدات بين واشنطن وأنقرة والرياض، مستجيباً لضغوط النفوذ التي تعصف بدور البلاد وموقعها الجيوسياسي.
وليد شرارة-
لا يزال العامل الجيوسياسي، قبل غيره من العوامل، يؤدّي دوراً حاسماً في تقرير مصائر الكثير من بقاع المعمورة، في جنوبها كما في شمالها، والتي تشهد نزاعات وحروباً. الحرب السورية، والتي خيضت تحت سقفها حروب عديدة، أكّدت هذه الحقيقة بجلاء مرّة أخرى. لا يعني هذا الكلام إنكار أهمية العوامل المحلّية في انفجار الأزمات بعد استفحالها، ولا تجاهل تطلّعات وقناعات القوى السياسية والاجتماعية التي أضحت أطرافاً فيها؛ لكن الدرس الأبرز لما حصل في سوريا هو أنّ العامل الجيوسياسي، والمقصود هنا التدخّل المباشر والمستمرّ للّاعبين الدولتيين، الإقليميين والدوليين، كلّ بحسب أجندته، هو الذي حدّد مسار تطوّر الصراع، ومآلاته في المحصّلة النهائية.
لا حاجة اليوم إلى العودة إلى الخوض التفصيلي في وقائع هذه التدخّلات، والتي باتت معروفة بمجملها، بل المطلوب هو التوقّف عند مدى استعداد أفرقاء الصراع المحلّيين للتكيّف مع أجندات الأطراف الدوليين والإقليميين للحصول على دعمهم، حتى ولو كان مثل هذا الأمر يتعارض مع قناعاتهم العقائدية أو الفكرية – السياسية الأساسية.
فصيلان رئيسيان على الساحة السورية أظهرا مثل هذا الاستعداد للقطع مع ثوابتهما المعلنة: «هيئة تحرير الشام» أو «جبهة النصرة» سابقاً، و«قوات سوريا الديمقراطية» التي يمثّل «حزب العمال الكردستاني» نواتها الفعلية. وإذا كانت ضرورات البقاء هي التي برّرت خيارات قيادتَيهما في مرحلة استعار الحرب، فإنّ صيرورة «قسد» سلطة أمر واقع في شمال شرق سوريا، و«هيئة تحرير الشام» مجموعة حاكمة في دمشق، قد أثبت أنّ المضيّ في هذه الخيارات، وفي مقدّمها الاندراج في الاستراتيجية الإقليمية العامة لواشنطن، أصبح من بين أوّل ثوابتهما المستجدّة.
وبما أنّ من يحكم دمشق يحظى بـ«رعاية» إقليمية، تركية وسعودية وغربية، أميركية وأوروبية، هي بمثابة «ضمانة حياة» بالنسبة إليه، وشرط لا بدّ منه لإنجاح مشاريع إعادة البناء و«فتح آفاق التنمية والازدهار» التي يحتاجها، فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه في مثل هذه الظروف، هو ذلك المرتبط بأثمان تلك الرعاية، المتعدّدة الأطراف والأجندات وما سترتّبه على الموقع الإقليمي لسوريا.
تعمل تركيا بشكل منهجي وهادئ على تعظيم نفوذها داخل المؤسّسات الأمنية والعسكرية والسياسية الجديدة في سوريا، لتصبح الأخيرة في مستقبل قريب مجالاً حيويّاً للأولى على المستوى الاستراتيجي. والتدخّل التركي في الأزمة السورية منذ اندلاعها، وإن تمّ تحت شعارات دينية – مذهبية، كان يرمي في الواقع إلى تحقيق أهداف قومية إمبراطورية، متّصلة بقناعة النخبة الحاكمة بأنّ التحوّلات في موازين القوى الدولية واتّساع هامش القوى الإقليمية الوسطى، يتيحان المجال لتحقيق الطموحات التركية إلى توسيع النفوذ في الجوار القريب؛ علماً أنّ المنطق نفسه، وإن في سياقات جيوسياسية وجيو-ثقافية مختلفة، يحكم السياسة التركية حيال النزاع بين أذربيجان وأرمينيا، على سبيل المثال لا الحصر. وفي الأصل، فإنّ الفريق الحاكم في دمشق وصل إلى موقعه أولاً بفضل تلك التوجّهات التركية، وما نجم عنها من حضانة لـ«جبهة النصرة» في البدء، ولـ«هيئة تحرير الشام» تالياً.
غير أنّ الصلة الوطيدة مع السعودية، وما نتج وقد ينتج منها في المستقبل من مكاسب سياسية للنظام في دمشق، تكتسب هي الأخرى أهمية حيوية. فالوعود بالاستثمارات الهائلة في مختلف قطاعات الاقتصاد السوري، وكذلك عملية تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، هي من «بركات» هذه الصلة. السعودية تريد من جهتها أن تستحيل سوريا ظهيراً إقليمياً لها يعزّز نفوذها في المشرق، بما فيه دول كلبنان والأردن وربما العراق لاحقاً. ولا ريب في أنّ التفاهمات بين أنقرة والرياض حول ضرورة دعم النظام السوري الحالي، والقبول بنوع من الشراكة وتقاسم النفوذ في هذا البلد، هي من بين العوامل الحاسمة التي تضمن بقاءه.
في الوقت نفسه، تكثر التكهّنات حول قِدم صلات رئيس النظام السوري الحالي، أحمد الشرع، بالولايات المتحدة. البعض يعتقد أنّ «علاقات عمل» نشأت بينه وبين الأجهزة الأمنية البريطانية والأميركية منذ حوالي العقد، نتيجة لتقاطع المصالح ضدّ إيران و«حزب الله» وروسيا بين الطرفين، وكذلك للتعاون ضدّ «داعش»، في حين يذهب آخرون إلى التأكيد أنّ علاقات جمعته بأجهزة أميركية منذ اعتقاله في العراق في 2007. المحسوم هو أنّ الرجل عبّر منذ سنوات طويلة عن قناعته بضرورة التحالف مع الغرب ضدّ إيران و«حزب الله» وروسيا، وأنّ التعاون بينه وبين الأجهزة الغربية بدأ في المجال الأمني، ليمتدّ إلى المستويَين السياسي والدبلوماسي بعد استلامه للسلطة.
هو ملتزم اليوم بالعديد من الإملاءات الأميركية المتعلّقة بالقطيعة الكاملة مع قوى المقاومة بجميع مكوّناتها في فلسطين ولبنان وإيران، وبمنع الدعم عنها، وبالامتناع عن أيّ مجابهة للاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، وبالسعي إلى التوصّل إلى اتفاق أمني مع إسرائيل. لكن هو ملتزم أيضاً، وبفعل التأثير التركي والسعودي عليه، بعدم الانضمام إلى «اتفاقيات أبراهام» في ظلّ اتّباع إسرائيل سياسة الإبادة والحرب المفتوحة وزعزعة استقرار الإقليم. لكن من الصعب جدّاً التكهّن بالأدوار التي من الممكن أن يرتضي القيام بها أو الخدمات التي قد يقدّمها، في سبيل الحفاظ على سلطته المهتزّة على وقع تأجّج الانقسامات الطائفية والإثنية؛ والذي يعود إلى التدخّل الإسرائيلي من جهة، والسياسة الرعناء المعتمدة من قِبل أجهزته والجماعات التي تعمل في ظلّها من جهة أخرى.
سوريا راهناً باتت محكومة بتوازنات شديدة الهشاشة، داخلية وإقليمية – دولية، وعادت ساحة بعد أن كانت لعقود لاعباً إقليمياً، بمعزل عن كلّ ما يمكن أن يقال، وهو كثير ، حول طبيعة نظامها السابق وسياساته.


