جو خوري –
لماذا لا يزدهر لبنان وشعبه قد ساهم في بناء وازدهار بلدان عدة؟
لماذا لا يتطوّر لبنان وعلماؤه قد وصلوا الى المريخ مع شارل العشي وفريقه في الناسا؟
لماذا لا ينمو لبنان ورجال أعماله في القارات الخمس ينتجون وينمون؟
لماذا تراجع العلم، تراجعت الثقافة والصحافة وتراجع الإعلام؟
لماذا فقدنا ميزة مصارفنا، ومستشفانا، وجامعتنا، ومدرستنا، ومرفأنا، ومطارنا؟
مائة لماذا ولماذا يلزمها مجلدات من البحث والتحليل، ولكن كلها تُختصر بعنوانٍ واحدٍ وشواهد بسيطة جداً لمن يريد أن يرى.
العنوان الوحيد لهذا التراجع، هو عدم عودتنا إلى أساس المشكل، فالشعب اللبناني بمعظمه يتعامل مع النتيجة وليس مع السبب، وهو يتمتع بذاكرة جماعية شبه معدومة.
من هنا كان مصيرنا تكرار نفس الأخطاء والتجديد لنفس المنظومة.
من الشواهد على ذلك:
إن سبب تعاستنا اليوم في دولة لا تشبه المزرعة حتى، لأن في المزرعة يوجد قانون ونظام، هو إتفاق الطائف الذي أعفى أمراء الحرب من جرائمهم، وسلّمهم التشريع والتنفيذ.
إن سبب فقرنا وفقداننا أموالنا، هو الإقتصاد الريعي والپونزي سكيم الذي طبقته منظومة التسعينات تحت شعار “البلد ماشي والشغل ماشي، ولبنان لا صناعة فيه، ولا زراعة فيه، ولا نفط فيه، وهو فقط أوتيل ورقّاصة”.
إن سبب وجود شعوب لبنانية قد تكون متعلّمة ولكنها غير مثقّفة، هو التراخي الذي فرضته التسعينات، ومنح تراخيص لدكاكين أسموها جامعات، واحتلال الجامعة الوطنية وإفسادها.
إن سبب فقداننا الودائع المصرفية هو عدم إقرار الكاپيتال كونترول من قبل المجلس، وعدم وقف الدعم على السلع النفطية وغيرها من اليوم الأول للأزمة.
إن سبب تفجير مرفأ بيروت وخسارتنا رئة الترانزيت الشرق أوسطية، هو حماية المنظومة لكل من كان له ضلع ومسؤولية في إحضار تلك الشحنة المشؤومة.
إن سبب السرقة في مصرف لبنان ووزارة المالية التي أسموها “فجوة”، هو غطاء منظومة الطائف وحماية أزلامها في هذه المواقع.
إن سبب فقداننا تعويضاتنا في الضمان الاجتماعي وخسارة أمننا الصحي، هو إحتلال الزبائنية المذهبية لهذه المؤسسة، ومنعها من المكننة والتطور إسوة بأي نظام pension في العالم.
في المحصّلة وباختصار، إن سبب وصولنا إلى هذا القعر هو تضامن أمراء المنظومة في ما بينهم منذ العام ١٩٨٨ لضرب الفريق الوحيد الذي نادى بوقف الحرب، بفتح المعابر وبإغلاق المرافئ والمرافق غير الشرعية في حينه.
فلو عدنا بالذاكرة لوجدنا أن فور صدور هذا القرار من الحكومة العسكرية، تكفّل حزب الجبل بقصف مطار بيروت، وتكفّلت حركة بيروت الغربية بإعادة إشعال خطوط التماس، وتكفّلت قوات بيروت الشرقية بالتعدي على الجيش اللبناني في حادثة المونتيڤيردي الشهيرة.
لو عدنا إلى هذا السبب والمسبّب لما نحن فيه اليوم، لكنا قد فهمنا ١٣ تشرين الأول ١٩٩٠، وفهمنا التحالف الرباعي ٢٠٠٥، وفهمنا ٧ أيار ٢٠٠٨، وفهمنا حادثة الطيونة ٢٠٢٢، وفهمنا تفجير القانون الأرثوذكسي، وفهمنا تعطيل خطط الكهرباء والسدود، وفهمنا كل التمديدات ومنع الطعون فيها، وفهمنا حماية أزلام تلك المنظومة من الملاحقات القضائية، وكنا قد فهمنا من صنع وموّل ودرّب ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩ المشؤومة، وفهمنا من حمى رياض سلامة ومنع إقرار الكاپيتال كونترول وقوانين استعادة الأموال المحولة والمنهوبة، وكنا قد فهمنا لماذا عرقلوا التدقيق الجنائي، ولماذا دعموا النزوح السوري وأوقفوا تسجيل ولاداتهم…
وربّما قد نفهم أيضاً من الجهة المقابلة، الفريق الوحيد الذي واجهته أحزاب المنظومة، ونفهم واقعيته السياسية وتقبّله النتائج والمواقع التي أفرزتها الإنتخابات النيابية، لذا هو حاول عقد تفاهمات الأمر الواقع مستنداً إلى إمكانية الإقناع بالحوار عوضاً عن المواجهة بالشارع أو بأخطر من الشارع.
سنكتفي بتعداد هذا القدر من العبث بكل ما هو مؤسسات دولة، وتخريبها بالتكافل والتضامن بين أحزاب وحركات أمراء الحرب، التي في ظاهرها هي متخاصمة، ولكن في باطنها هي متفقة وموحّدة جميعها ضد هذا الفريق الواحد الذي يريد للبنان أن يكون بلدا نفطياً، وبلداً متطوّرا بإقتصاد منتج، وبلداً يحميه جيش قوي واستراتيجية دفاعية تحصّنه. بلد قضاءه مستقل ونظيف، بلد التواصل مع الغرب والشرق، وبلد متحرّر من المحاور.
فعمل هذه المنظومة منذ إنطلاقة الحرب هو أن تضعنا دوماً على حافة المهوار، وتوقد الغرائز والترويج للخوف من الآخر، ومن ثم تخيّرنا بين السيء والأسوأ، حتى لو هي اضطرت في بعض الأحيان أن تقرّ بأن “فلاناً كان على حق، لكننا اليوم أمام هذه النتيجة، فتعالوا نتعامل معها وليس مع السبب”!
فالمنظومة تجيد تلك اللعبة ولا يمكنها أن تتحمّل المحاسبة.
وعندما نعود إلى السبب ومن ثم نقرأ النتائج ونقارنها بتسلسل الأحداث، نكون قد استحقينا رتبة مواطنين، ولم نعد رعايا أحزاب محاور وسفارات قد غسلت دماغنا، فأصبحنا عميان البصر والبصيرة.
عندها فقط يمكننا أن ننتخب صح، أن نحاسب صح، وأن نبني بلدنا ومجتمعنا صح.