Site icon Lebanotrend

نحو مجْمعٍ وطني لحماية وجود لبنان

نشرتُ في صحيفة «الجمهورية» يوم الثلاثاء الماضي مقالًا بعنوان: «المسيحيّون في لبنان: هواجس سياسية بجذور لاهوتية»، فوصلتني ردود متفاوته لم أكن غافلاً عن معظمها. المقتنعون بصيغة العيش معاً، (وهم بالمناسبة من طوائف متنوّعة) طالبوني بالتوسع في المقاربة، والذين ما عادوا مقتنعين بتجربة العيش معاً، وجلّهم من المسيحيِّين، قالوا «لقد دفعنا الثمن من وجودنا ودورنا»، وفي كلامهم قلق صادق، لكنّ استنتاجهم في غير محله. فالخطر على وجود المسيحيِّين ودورهم لم يأتِ لا من لبنان الكبير، ولا من التنوّع الذي كان قائماً في لبنان المتصرّفية (لِمَن يحنّون إليها). الخطر على الوجود لم يعُد يقتصر على المسيحيِّين، ومردّه إلى الفشل في حُكم الدولة وفي إدارة التنوُّع، وهذه مسؤولية يتحمّلها بدرجات متفاوته جميع مَن تولّوا الحُكم في لبنان من مسلمين ومسيحيِّين على مدى مئة عام.

لم تغفل عني اتهامات من مسيحيِّين للمسلمين، بأنّهم أرادوا تذويب لبنان وإلحاقه بمشاريع إقليمية، واتهامات من مسلمين للمسيحيِّين بأنّهم استأثروا بالحُكم وهيمنوا على الاقتصاد.
يقيني، لم تعُد تنفع معرفة مَن الذي أساءَ أكثر للعيش معاً، فالخطر اليوم هو على وجود لبنان. واهمٌ مَن يظنّ أنّ طائفته ستربح إذا تمّ إلحاق لبنان بسوريا، وواهمٌ مَن ينتظر ربحاً من تجزئة لبنان. لن تقوم دولٌ للطوائف فوق جغرافيةِ لبنان، فإمّا أن يبقى دولة موحّدة أو بكل بساطة لن يبقى. لبنان يمثّل حاجة لشعبه فقط وليس للآخرين. تجربة الحياة اللبنانية المشتركة هي التي بنجاحها، تشكّل للآخرين مصدر إلهامٍ لإدارة التنوّع. العيش معاً مخاض صعب لكنّه يولّد حضارة عظيمة، وهو لا يعني الإنصهار، بل حماية التنوّع والحرّية داخل الدولة الواحدة.
هنا، لا يعود النقاش فكرياً أو تاريخياً، بل يتحوّل إلى معيار عملي لمواجهة أخطر ما يُهدِّد الدول ذات المجتمعات المتنوّعة، وأعني به إرهاب التطرُّف، والعنصرية، وكل مشروع يقوم على نفي الآخر أو إلغائه.
بهذا المعنى، تبدو «الخلقيدونية السياسية» برمزيّتها عرضاً حضارياً موجّهاً إلى مجتمعات المشرق كلّها. إنّها تقف على النقيض المباشر من منطق المتطرّفين، سواء تلك التنظيمات التي تتوسّل الدين لتبرير الجرائم، أو الدولة التي تتوسّل الهوية العنصرية لتبرير الإجرام والإقصاء. هي نفسها الأحادية القاتلة التي تقوم على إخضاع الآخر لا على الشراكة معه.
في مواجهة هذَين النموذجين، وفي إطلالة على الحاضر أقول: لا خلاص لجماعة خارج الدولة، ولا دولة قابلة للحياة من دون شراكة كاملة بين جماعاتها، ولا استقرار للدول من دون احترام متبادل للسيادة وشبكة مصالح مشتركة.
هي رؤية لا تُنكِر الخصوصيات، لكنّها ترفض تحويلها إلى حدود سياسية أو أمنية. الخصوصية هنا غنى، لا ذريعة للانسحاب. العيش المشترك فعلٌ سياديّ لا مجرّد شعار. وعلى غرار مواجهة الإرهاب بتجفيف مصادر تمويله، فإنّ مواجهة الإقصاء، تبدأ بتجفيف منابعه الفكرية: رفض سرديات الخوف، إسقاط منطق «نحن وهم»، وتثبيت مفهوم المواطن لا التابع، الشريك لا الحارس.
بالنقاش الحرّ فقط نواجه السؤال المعضلة: ما هي الدولة في مجتمع متعدِّد؟ كيف نحمي وحدة الدولة وتنوّع المجتمع؟ كيف نمنع المركزية القوية من أن تتحوّل إلى هيمنة، والتنوّع الإيجابي من أن يتحوّل إلى تمايز مفرط ينتهي إلى التفكّك؟
إنّها صيغة التوازن المطلوب لولادة نظام حكم جديد بالاتفاق لا بالفرض استناداً إلى مبادئ غير قابلة للمساومة:
• الدولة هي الإطار الوحيد للحياة المشتركة.
• لا حقوق جماعية خارج المساواة الفردية في المواطنة.
• لا أمن دائماً بلا عدالة، ولا عدالة بلا دولة.
• التنوّع مصدر استقرار، لا تهديداً له.
حَكَمتنا طويلاً موازين قوى على إيقاع الخارج، فكانت أقرب لإدارة أزمات.
لم تصنع حلولاً ثابتة، بل تسويات ظرفية بضمانات متبادلة بين الجماعات، أبقت الدولة معلّقة على صليب أزمات متناسلة، لهذا تبدو السياسة اللبنانية بلا حسم، لا في الأمن ولا في الاقتصاد ولا في العلاقة مع المحيط أو الخارج.
المراوحة قاتلة، فإمّا مشروع دولة مدنية شاملة جامعة، تحوّل التعدّد إلى قوة سيادية، وإمّا استمرار البحث عن توازنات ظرفية هشّة، يتقدّم فيها الخوف وتُدار الإختلافات كتهديدات لا كفرص.
لا معنى لتكرار خطاب العيش المشترك، من دون تحويله إلى قرار سياسي. وفي هذا السياق تحضرني منصّة نقاش قيّمة شاركتُ فيها بدعوة من مركز الحوار الإنساني (جمعية HD السويسرية) إلى جانب ممثلين عن أحزاب سياسية لبنانية، كان هدفها أن يضع كل طرف هواجسه فوق الطاولة لرسم خارطة طريق لتنفيذ ما لم يُنفّذ من إصلاحات دستورية، ويؤسفني ما تعرّضت له هذه المنصة من هجوم سياسي إعلامي، هو أقرب إلى إطلاق النار على مشروع يجمع لمصلحة مشروع يفرّق. الحوار الدستوري في لبنان ليس ترفاً، بل كسر للصمت المخيّم على النقاش المتصل بالنظام السياسي القائم منذ اتفاق الطائف. أيّ قمعٍ لهذا النقاش مرفوض مهما كانت الحجّة، مع التأكيد أنّ مجرّد فتحه يؤدّي إلى كسر التابو المحيط ببحث بُنيَة النظام، وتوضيح مواقف القوى السياسية وهواجس الجماعات والأفراد، بدل تركها محكومة بالتخمين وسوء الظن.
النقاش الدستوري ليس حكراً ولا محرّماً، وهو يُنتِج أفكاراً قابلة للتحوّل إلى نقاش تشريعي جدّي في مجلس نواب 2026، إذا ما توافرت الإرادة. المطلوب من الحوار، أن يفتح بالسياسة باب الحل بعدما أُغلِق طويلاً لمصلحة الشارع أو السلاح أو الانهيار الصامت.
أليست مقدّمة الدستور مدخلاً إلى العقد الجامع الذي حسم أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، تقوم دولته على احترام الحرّيات الفردية والعامة وقِيَم العدالة والمساواة، واحترام التنوّع؟
إذا تحوّلت المقدّمة من نصّ مُعلّق إلى مرجعية ملزمة، أفلا تصبح مدخلاً فعلياً للخروج من الهواجس بقيام دولة تطبّق دستورها، وقوى سياسية تحترم هذا الدستور، ومؤسسات تحمي الجميع بلا تمييز.
كثرٌ عبّروا لي عن خوف المسيحيِّين على الوجود والدور، لكنّ هذا الخوف لا ينبع من فوبيا الآخر، بل من تجربة تاريخية قاسية يشهد فيها مسيحيّو لبنان منذ القرن الماضي على تفريغ العراق وسوريا وخصوصاً فلسطين من مكوّناتها المسيحية، بفعل الحروب والاضطهاد والهجرة. اليوم بات الخوف على الوجود يعمّ اللبنانيِّين، من هنا، بات القلق يتمركز حول سؤال جوهري: هل يستطيع لبنان، خلال السنوات المقبلة، أن يصمد كدولة خارج منطق دولة الحقّ والمواطنة والعدالة والحرّيات؟
الجواب: وحدها هذه الدولة تبدّد الخوف من السلاح بحصره بيَد الشرعية. وحدها تحمي من هاجس التوطين باعتباره تهديداً ديموغرافياً وسياسياً مباشراً لتوازنات لبنان. وحدها تضمَن الشراكة الفعلية ليبقى المسيحيّون شركاء مؤسسين، لا «أقلية» تحتاج إلى ضمانات؟ وحدها تعالِج باللامركزية الإنمائية الموسّعة الهواجس الإقتصادية والإجتماعية الناتجة من إفقار الطبقة الوسطى وتفريغ لبنان من طاقاته.
خلاصة هذه الهواجس واحدة: الخوف من تلاشي الدور وضياع لبنان كمساحة حرّية وتعدُّدية في محيط إقليمي تهدِّده الأحاديات المتطرِّفة وصراعات المصالح.
هل يكفي الطائف لمعالجة كل هذه الهواجس؟ إنّه المنطلق لحماية الوجود والشراكة الفعلية خارج معادلة الأرقام. الطائف إطار ضروري لكنّه يحتاج ككل دستور إلى تحديثٍ بدءاً من تنفيذ بنوده الإصلاحية باعتباره العقد الدولتي المدني الوحيد الذي ارتضاه جميع اللبنانيِّين.
الخوف مشروع والهواجس حقيقية، لكنّها لا تُعالَج بابتكار ضمانات فوق الدولة، بل بجعل الدولة ضمانة الجميع. عندها يسقط الخوف، وتتحوّل المناصفة من قَيد سياسي إلى حافز للشراكة.
هذه هي نظرة الحويّك الكبير، وهذا هو جوهر رسالة الفاتيكان للبنانيِّين وخصوصاً للمسيحيِّين، واختصاره أنّ العيش المشترك خيار وجودي وليس تسوية ظرفية.
العيش معاً خيار تفاعلي إيجابي، فالوحدة لا تلغي التعدّد، والتعدّد لا ينسف الوحدة. لا تقوقع الداخل يحمي المسيحيِّين ولا الإستقواء بالخارج يحمي المسلمين. الحل الوحيد: دولة مدنية محايدة يتساوى فيها الجميع أمام القانون، تحميهم بمركزية قوّتها وعدالتها ولامركزية إدارتها وإنمائها. وبقدر ما يبدو الخطر داهماً، بقدر ما تبدو اللحظة مؤاتية.

(أنطوان قسطنطين)