كتب الصحافي الإقتصادي منير يونس: لن يطأ مصرفيٌّ واحدٌ عتبة السجن. ولن يُحاسَب وزيرٌ أو نائبٌ أو مديرٌ كان شريكًا في تبديد أموال الناس ومدّخراتهم. كأنّ البلاد اتفقت على جملةٍ واحدة: الجريمة هنا تمرّ، ثم تُنسى.
وأوضح يونس: زعماء الطوائف نفضوا أيديهم… وغسلوها من دماء المودعين. لا محاكمات تُفتح، ولا مرافعات، ولا أحكام. ستعبر سرقة العصر كما تعبر العواصف في مدينةٍ اعتادت الخراب: ضجيجٌ كثير، ثم صمت.
ومثلها مثل جريمة انفجار المرفأ، ستمرّ قضية المودعين مرور الكرام، بلا متّهمٍ واضح، وبلا مسؤولٍ يُسمّى، وبلا عدالةٍ تُنجز. ملفٌّ ثقيل يُدفع إلى الهامش، ثم يُطوى… وكأنّ وجع الناس تفصيلٌ، وكأنّ الخراب مجرّد خبرٍ قديم.
لن تكون هناك مساءلة ولا محاسبة. لأنّ من هم في السلطات السياسية والنقدية والمصرفية شركاء في السرير نفسه؛ ولأنّ «توازن الرعب» الطائفي هو الذي يقرّر من نحاسب ومن لا نحاسب… والنتيجة واحدة: لا نحاسب أحدًا.
كيف سيحاسب زعيمٌ فاسد مصرفيًّا فاسدًا، إذا كان الاثنان شريكين في الجريمة؟ وكيف سيحاسب نائبٌ حكومةً حزبه ممثَّل فيها، وحصّة طائفته مضمونة سلفًا في نظام التحاصص؟ في هذا البلد، من يملك مفاتيح السلطة يملك أيضًا مفاتيح الإفلات من العقاب: يراقبون أنفسهم، ثم يبرّئون أنفسهم.
كيف لا، ونحن في وطنٍ تتقدّم فيه الميليشيات على الدولة، والسلاح على القانون، والزعامة على العدالة؟ منذ الحرب الأهلية وهم يتقنون فنّ غسل الأيدي الملطخة بالدماء: يرتكبون الموبقات ولا يرمش لهم جفن، لا يخافون أحدًا… بل يحتقرون الناس.
والمودعون، مسلوبو الحقوق، يتوزّعون بين هذا الولاء وذاك: من يلوذ بطائفته، ومن يحلف بحياة الزعيم، ومن يتعلّق بظلّ رجل دين… ثم يكتشف، متأخرًا، أنّ ولاءه لم يحمه من السلب، ولا طائفته أعادت إليه حقه. ورغم ذلك يبقى خروفاً في قطيع.
ومصرف لبنان، مركز زلزال الأزمة، بقي على حاله. لم يتغيّر فيه الشيء الكثير، ولم تتبدّل قواعد اللعبة. خزائن أسراره لن تُفتح، والدفاتر التي تعرف كيف تبخّرت الودائع ستظلّ مقفلة، كأنّ الحقيقة خطرٌ على “الاستقرار”، وكأنّ كشفها ترفٌ لا يليق ببلدٍ اعتاد أن يُدار بالعتمة.
أما وزارة المال، فبعد سنواتٍ من الإنفاق والتبذير والفساد، تعود اليوم لا لتُصلح، بل لتستوفي. تمدّ يدها إلى جيوب الناس بالرسوم والضرائب، ببرودٍ كامل، غير عابئةٍ بمن خسروا تعب العمر، ولا بمن أُنهكوا حتى آخر قدرة على الاحتمال. تجبي من “المعترين” وتحمي الأوليغارشية.
وتابع يونس: وهراءٌ الكلام عن أنّ لبنان بلد “الأبجدية”، وهراءٌ الكلام عن أنّ ميزته التفاضلية في “ثروته البشرية” المتعلّمة والمثقفة. فهذه الموارد البشرية نفسها غائصةٌ حتى أذنيها: إمّا في منطق المافيا، وإمّا في منطق الميليشيا. قلةٌ تحاول النجاة خارج القطيع، وأكثريةٌ تُجيد التكيّف… ثم تستغرب لماذا لا تولد دولة قانون ومؤسسات من رحم هذا التواطؤ الغريب، المعيب والمريب.
هكذا تُمحى آثار الجريمة: لا محاسبة على ما مضى، ولا كشفٌ لما خُبِّئ، ولا حمايةٌ لمن نُهبت أمواله وتدمّر مستقبله ومستقبل أبنائه. فقط فاتورةٌ جديدة تُسلَّم للضحايا… باسم الحلف البنكرجي الطائفي المجرم.
وختم: وهكذا صار لبنان مقبرةً تُوارى فيها الحقوق، ومسلخًا تُذبح فيه الحقيقة على مرأى من العالم أجمع.

