Site icon Lebanotrend

مشكلة السيولة وتسديد الودائع تأتي ثانياً ولا تمويل للاقتصاد: هل اتفقت الحكومة مع «الصندوق» على «تراتبية الخسائر»؟

 

محمد وهبة

يتوقع أن تدعو رئاسة الحكومة إلى انعقاد مجلس الوزراء يومي الإثنين والثلاثاء، من أجل مناقشة مشروع قانون الفجوة المالية واسترداد الودائع. إلا أن ذلك يبقى رهناً بموافقة صندوق النقد الدولي المنتظرة خلال ساعات، على الاقتراح الأخير بشأن مسألة «تراتبية توزيع الخسائر» بعدما عملت اللجنة الوزارية المكلفة بالموضوع على إعداد صيغة وصفت بأنها «مرنة» لأنها تراعي ملاحظات صندوق النقد بالتوازي مع ضمان الأهداف التي تعبّر عنها الأطراف الثلاثة المعنية بالموضوع، أي وزير المال ياسين جابر، وزير الاقتصاد عامر البساط، حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، والقائمة على ضرورة استمرارية المصارف لا تصفية رساميلها أولاً.

خلال الأيام الماضية ظلّت نقطة أساسية عالقة بين صندوق النقد واللجنة الحكومية المكلفة إعداد مشروع قانون الفجوة المالية. تتمحور هذه النقطة حول مسألة تراتبية توزيع الخسائر بعد إجراء تقييم لجودة أصول مصرف لبنان.

اقتراح اللجنة المتفق عليه بين كل أعضائها بمن فيهم وزير الاقتصاد والمال وحاكم مصرف لبنان، أن تنعكس جودة الأصول في ميزانية مصرف لبنان على الجهة التي ترتبط به مباشرة، أي المصارف. بمعنى أوضح، إن الفجوة المالية أو الخسائر التي ستظهر بعد تقييم جودة الأصول لدى المصرف المركزي، ستنعكس على ميزانيات المصارف، وبالتالي فإن الخسائر ستظهر مباشرة في هذه الميزانيات.

حتى هذه اللحظة، ليس هناك أي خلاف على هذه النقطة، لكن في مرحلة ما بين تحديد حجم الخسائر وبين عملية نقلها إلى المصارف، اقترح الحاكم على اللجنة أن تتم إزالة «الشوائب» أولاً قبل الانتقال إلى مرحلة نقل الخسائر.

حسابياً، لدى مصرف لبنان التزامات بقيمة 82 مليار دولار، فإذا تبيّن أن أصوله تساوي أقلّ من ذلك، فإن الفرق هو الخسائر. ووفق التقديرات التي عرضها الحاكم، فإن حجم الفجوة أو الخسائر المتوقعة قد تصل إلى 30 مليار دولار. عند هذه النقطة افترقت اللجنة عن صندوق النقد:

– وفق اقتراح الحاكم، فإنه يجب تنقية الشوائب، أو ما يسمّى الالتزامات غير النظامية أولاً، وهو ما يعني عملياً، شطب مبلغ من الودائع يستند إلى معايير محددة مثل: تحديد متوسط سعر الصرف السنوي الذي يجب على أساسه احتساب عمليات التحويل التي نُفذت على الحسابات المصرفية من الليرة إلى الدولار في فترة الأزمة. حجم الحسابات التي سيلحقها هذا الشطب، فيها ما مجموعه 31 مليار دولار، وستُشطب منها 23 مليار دولار.

ويفترض أيضاً أن تُشطب الفوائد الإضافية أو التي تزيد على 2% التي حصل عليها أصحاب الحسابات وقيمتها مقدرة بنحو 5 مليارات دولار، ثم تُشطب الأموال غير المشروعة وتُقدّر قيمتها بنحو 2 مليار دولار. عملياً، سيتم شطب 15 مليار دولار من الفجوة التي ستظهر بعد تقييم أصول مصرف لبنان، وستنتقل الخسائر إلى ميزانيات المصارف وحقوق الملكية التي كانت تبلغ قبل الأزمة نحو 21 مليار دولار، وبالتالي سيبقى منها 6 مليارات دولار.

ويتوجب التحذير بأن هذه الأرقام ليست نهائية، إذ إنها خضعت لتدقيق في أكثر من مناسبة وتعدّلت، لكن كل التعديلات والتحديثات لم تغيّر في الاتجاه النهائي للمسألة، إذ يتوقع وفق آخر تحديث للأرقام أن يبقى في رساميل المصارف ما بين 6 مليارات دولار و8 مليارات دولار.

– يرى صندوق النقد الدولي أن الممارسات الدولية تفرض عملية نقل الخسائر مباشرة إلى ميزانيات المصارف قبل أي شطب للودائع مهما كانت تسميته. وبالتالي فإنه يجب أن تنتقل الفجوة بكاملها (التقديرات الأولية تشير إلى أنها تبلغ 30 مليار دولار) إلى ميزانيات المصارف لتأكل حقوق الملكية بكاملها، ثم ينتقل ما يبقى منها ضمن تسلسل معيّن إلى الودائع. وبالتالي ستصبح رساميل المصارف صفراً، ثم ينتقل الباقي (المقدر بنحو 9 مليارات دولار) إلى الودائع التي ستخضع لعملية شطب على هذا الأساس.

ورغم أن هذه هي المشكلة الأساسية التي تؤخّر إنجاز مسودة مشروع القانون المنتظر، إلا أنها لن تكون المشكلة الأخيرة. ففي سياق تطبيق سائر البنود، ستظهر مشكلة السيولة بقوّة. فعلى افتراض أن حجم الفجوة يبلغ 30 مليار دولار وأن هناك اتفاقاً على آلية شطبها، فإن الأصول التي ستبقى في ميزانيات المصارف ومصرف لبنان تبلغ 50 مليار دولار، فكيف سيتم تسديدها؟

حتى الآن، من الواضح أنه اتُّفق على اعتماد مبدأ المودع في كل مصرف على حدة، أي إذا كان لأحد أصحاب الحسابات في مصرف ما، حساب آخر في مصرف ثانٍ، سيتم التعامل مع كل حساب على حدة لا على أساس جمع كل حسابات الشخص الواحد في كل المصارف. واتُّفق أيضاً على تسديد أول 100 ألف دولار في كل حساب مصرفي، وهذا ينطبق على 850 ألف حساب، على أن يتم تحويل كل المبالغ الباقية في كل الحسابات بعد تسديد أول 100 ألف دولار، إلى سندات وأدوات مالية بآجال تُستحق بعد 10 سنوات وصولاً إلى 20 سنة.

وبحسب مناقشات اللجنة، سيتم تقسيم الحسابات إلى شرائح لغايات برنامج التسديد مقابل السيولة. الشريحة الأولى بين صفر و100 ألف دولار، ستتقاضى أول 100 ألف دولار (أي حسابها كاملاً) على أربع دفعات سنوية بمعدل 25 ألف دولار سنوياً.

الشريحة الثانية من 101 ألف دولار إلى مليون دولار، ستتقاضى حصّتها من أول 100 ألف دولار على خمس دفعات سنوية، والشريحة الثالثة بين مليون ودولار واحد وبين 5 ملايين دولار، ستتقاضى حصّتها على أساس 6 دفعات سنوية، والشريحة الرابعة التي يمتلك فيها أصحاب الحسابات أكثر من 5 ملايين دولار ستتقاضى حصّتها على أساس 7 دفعات سنوية.

إذاً، الكل سيحصل على أول 100 ألف دولار، لكنّ بعضهم سيحصل عليها خلال أربع سنوات، والآخرين على فترات مختلفة تتراوح بين 5 سنوات و7 سنوات، وكل المبالغ الباقية ستتحوّل إلى سندات مضمونة بأصول يقدّمها مصرف لبنان من بينها الذهب وعقاراته وملكياته المختلفة في لبنان والخارج.

ويقترح المصرف المركزي أن يسدّد مباشرة 20% من مجموع المبالغ الواردة في برنامج الاستحقاق هذا، أي ما يوازي 4 مليارات دولار وذلك مناصفة مع المصارف. لكن في السنوات التالية، ستبدأ مسألة التسديد تزداد صعوبة ربطاً بصعوبة الحصول على سيولة بالعملة الأجنبية.

ووفق تقديرات وزارة المال، فإن ما يوجد لدى الدولة ومصرف لبنان والمصارف لا يكفي لتسديد أكثر من 3 سنوات، ما يعني مباشرة الذهاب نحو تصفية أو رهن الأصول التي خُصّصت لضمان الاستحقاقات للمودعين.

الحديث هنا عن الذهب بشكل أساسي، وهي المرّة الأولى التي يُشار فيها إلى الذهب بشكل جدّي، ما يرتّب مجموعة من الإشكاليات التي تتعلق بكيفية تسييله الذي يحتاج إلى قرار من مجلس النواب، وبالهدف المرجو من التسييل لأن المبالغ ستذهب على شكل دفعات إلى أصحاب الحسابات الذين سيستعملونها للاستهلاك أو سيحوّلونها إلى الخارج، ما يعني أن الاقتصاد فقد جزءاً مهمّاً من الثروة التي يُفترض أن يستعملها للنهوض العام وليس لفئة على حساب الفئات الأخرى.

وعلى افتراض أنه لن يتم المساس بالذهب، فإن الخيار الآخر المطروح على الطاولة هو الاستدانة. وهذا ما يجعل وضع المالية العامة سيئاً أكثر مما يبدو عليه اليوم بكثير. فالنموذج الاقتصادي الذي انهار وانفجر في 2019، كان قائماً على استقطاب التدفقات بالعملة الأجنبية وتوزيعها في الداخل بهدف تمويل استهلاك مستورد بنسبة تفوق 80%، ما يعني أن المبالغ التي تدخل إلى لبنان سرعان ما تخرج منه.

وكان ذلك يحصل وسط تثبيت متشدّد للعملة اللبنانية مقابل الدولار، ما ينفخ القدرة الاستهلاكية ويجعل قيمة الليرة أكبر بكثير مما هي عليه في الواقع. وبالتالي، فإن العودة إلى الاستدانة، سيكون ركناً إضافياً من أركان إعادة إحياء النموذج السابق القائم على استقطاب التدفقات (الاستقطاب كان يتم بواسطة الفوائد المرتفعة لتحفيز الودائع التي تعيد المصارف إقراضها إلى الدولة مباشرة أو إلى مصرف لبنان ثمّ منه إلى الدولة). وارتفاع الودائع كان يفسَّر على أساس «مخاطر البلد العالية». وفي المحصّلة، يعود النموذج إلى مراكمة الخسائر و«إخفائها تحت السجادة» تمهيداً لانفجار مقبل بعد سنوات.

يحصل ذلك، من دون أدنى اهتمام بالاقتصاد الحقيقي، ومن مؤشراته خلق الوظائف وزيادة الإنتاج المحلي ووقف الهجرة وزيادة التقديمات الاجتماعية وإنشاء نظام نقل عام… ثمة الكثير مما سيكون على المحكّ. فإذا كانت السيولة كلّها ستُخصَّص لهذه الاستحقاقات المالية، فما الذي سيتم تخصيصه للاستثمار في البنية التحتية مثلاً، أم أن لبنان سيُعرض على البيع بالمفرّق؟

بعد الذهب مثلاً، سيتم اللجوء إلى بيع قلعة بعلبك أو الثروة النفطية في البحر، أو حتى مياه الأنهر، وسيُباع قطاع الاتصالات بثمن بخس كما هو واضح حتى الآن… كل هذه المسائل لا تقع في أي اعتبار لصندوق النقد الدولي ولا للجنة الوزارية المكلَّفة بمشروع الفجوة المالية ولا لحاكم مصرف لبنان.

عملياً، الخيارات المتاحة اليوم، ولبنان بين أيدي هذه المجموعة من قوى السلطة بكل من فيها من جديد وقديم، هي الرضوخ لإملاءات صندوق النقد التي تنطوي على بُعد سياسي عميق يرغب في إحداث تحوّلات كبرى في المجتمع، وبين مجموعة لا ترغب في أن ترى الواقع المؤلم في تفكّك المجتمع بعد هجرة الشباب ونتائج العدوان الإسرائيلي ولا ترغب في التعامل معها، بل تريد تكريس الواقع كشرط لاستمراريتها.