غادة حلاوي –
استحوذت زيارة البابا ليون الرابع عشر للبنان على حيّز كبير من الاهتمام الداخلي والخارجي على حدّ سواء. زيارة دينية لا يمكن فصلها عن السياسة، بالنظر إلى موقع لبنان في المنطقة. وهو، كما قال رئيس الجمهورية جوزيف عون، ذلك الوطن الصغير بمساحته والكبير برسالته.
ليس تفصيلاً عابراً أن تكون الزيارة الأولى للبابا خارج الفاتيكان إلى لبنان في وقت يعاني فيه هذا البلد عزلة دولية مقصودة ومتعمّدة، وتترافق مع ضغوط هائلة من الخارج وعدوان إسرائيلي مستمر. وتمثّل الزيارة أبلغ رسالة على دور لبنان ومكانته، ليس فقط الدينية في ما يتعلّق برسالة العيش المشترك الإسلامي–المسيحي، وإنما أيضاً مكانته السياسية في الشرق الأوسط، بالنظر إلى نظامه الديمقراطي وحرية الرأي والمعتقد. هذا لبنان، لبناننا، الذي تحدث باسمه رئيس الجمهورية، فأجاد بما قاله، وعبّر في كلمة بُعدُها ديني ثم سياسي، وبينهما مناجاة واستنجاد بالكرسي الرسولي، لعلّه يصغي عبره ومن خلاله إلى ما يتعرّض له لبنان منذ سنوات من أزمات اقتصادية وسياسية آخذة في التمدّد، وحرب إسرائيلية لم تتوقف منذ عام، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة.
بلغة الكنيسة تحدث عون عن إيمان عظيم لشعب يرجو “شفاء النفوس والقلوب والعقول من الأحقاد والحروب والدمار”، غامزاً في العمق من قناة إسرائيل التي تمارس أحقادها وحروبها على العالم. ثم انتقل إلى الترحيب بالبابا في “الأرض المُسيَّجة بالعذراء، والمكرَّسة لاسمها، من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال”. وفي الوسط “سيدة المنطرة” قرب صيدا، حيث انتظرت العذراء ابنها يسوع، “فجعلنا يوم بشارتها عيداً وطنياً لكل طوائف لبنان ولكل أدياننا الإبراهيمية، في ظاهرة لم يعرفها أي بلد آخر في العالم”.
وتابع: “أهلاً وسهلاً بكم، على الأرض التي من بعض مائها المتدفّق من حاصباني الجنوب، تعمّد يسوع في نهر الأردن”، توصيف جغرافي له بُعده الديني وقدسيته، يعيد التذكير بلبنان البعيد عن لغة الانقسام والحروب التي تُخاض ضده، ليقول للكرسي الرسولي إن هذا البلد هو مهد المسيح وسيد رسالته، وليطلب رعايته وحمايته.
رسالة تنبيه وتحذير
ويمضي من هنا للحديث عن نسيجه الاجتماعي: “وطن فريد في نظامه، حيث يعيش مسيحيون ومسلمون مختلفين لكن متساوين، في نظام دستوري قائم على التساوي بين المسيحيين والمسلمين، وبالانفتاح على كل إنسان وضمير حر. هذه فرادة لبنان في العالم كله. وهذه دعوته لكل الأرض”. وفي طيات عبارات كهذه تحذير مبطّن من أهمية الحفاظ على النموذج اللبناني، في وقت يتعرّض فيه المسيحيون لمضايقات تدفعهم إلى الهجرة، في حين يبقى عيشهم المشترك مع المسلمين في لبنان رسالة حب وتعايش ينبغي الحفاظ عليها وحمايتها من قبل الكرسي الرسولي، الجهة الوحيدة التي تهتم بوجود عامل كهذا في زمن تسيطر عليه الحروب والانتهاكات الإسرائيلية بحماية وغضّ طرف دوليين.
وفي البعد الجغرافي نبّه عون إلى أن تغيير طبيعة لبنان سيفرض بديلاً متطرفاً “وخطوط تماسٍ في منطقتنا والعالم، بين شتى أنواع التطرف والعنف الفكري والمادي وحتى الدموي. هذا ما أدركه الكرسي الرسولي دوماً”.
على أن الأساس في كلمة عون، وما أراد فعلاً تحميله إلى البابا، هو استعداد لبنان للذهاب بعيداً في موضوع التفاوض، ليتوجه إليه قائلاً: “أبلغوا العالم عنا، بأننا باقون مساحة اللقاء الوحيدة في كل منطقتنا، وأكاد أقول في العالم كله، حيث يمكن لهذا الجمع أن يلتقي حول خليفة بطرس، ممثّلين متفقين لكل أبناء إبراهيم، بكل معتقداتهم ومقدساتهم ومشتركاتهم… فما يجمعه لبنان لا يسعه أي مكان على الأرض، وما يوحده لبنان لا يفرقه أحد”. معتبراً أن معادلة كهذه تؤمن للبنان العيش في سلام مع منطقته، وفي سلام منطقته مع العالم.
دعوة جديدة وصريحة من رئيس الجمهورية تؤكد استعداد لبنان للتفاوض لوقف العدوان الإسرائيلي على لبنان، وتذهب أبعد، بالحديث عن التلاقي بين أبناء إبراهيم بكل معتقداتهم ومشتركاتهم.
بهذا المعنى تدرّج عون في خطابه، من الترحيب بقداسة البابا في لبنان، تلك الأرض المشمولة بقداسة السيدة العذراء والسيد المسيح الذي يحمل في بعده رسالة العيش المشترك والتعايش الإسلامي–المسيحي الذي بات وجوده نادراً في منطقة الشرق الأوسط، ليدخل من هنا مستعرضاً جملة مخاوف لبنان ببعده الديني والاجتماعي والإنساني الفريد، ويحمل البابا رسالة مفادها استعداد لبنان للذهاب بعيداً في التفاوض في سبيل حماية لبنان من الحروب والأحقاد والدمار.
إحاطة سياسية لزيارة دينية البعد
وإن كان تجنّب ذكر الجنوب أو العدوان الإسرائيلي صراحة، فإن فحوى ما قاله عون والرسالة التي حملها إلى الكرسي الرسولي بخلفياتها وأبعادها تبقى واضحة، وإن اعتبر البعض أنّ المناسبة عالمية كان يمكن للبنان أن يستفيد منها لإيصال صوته إلى العالم والحديث صراحة عن إسرائيل وعدوانها. لكن يمكن تفهّم عبارات عون الذي قصد إبقاء الزيارة ضمن بعدها الديني مع إحاطة سياسية تؤكد للمرجعية الدينية الأعلى للكاثوليك في العالم أن استمرار وجودهم في هذا الشرق مهدَّد، وأن لبنان يشكّل ملاذهم الوحيد لنموذج العيش الإسلامي–المسيحي، وأن هذا النموذج مهدد ما لم تتوقف الحرب والدمار المستمرّان من إسرائيل، بالرغم من دعوات لبنان السابقة للتفاوض.
في خطابه لم يُغفل عون الجنوب، وهو الأرض المسيَّجة بالعذراء، ومياه الحاصباني التي تعمّد بها السيد المسيح في نهر الأردن.
باسم لبنان تحدث رئيس الجمهورية الماروني الوحيد في الشرق الأوسط، وقد تلاقى مسيحيوه ومسلموه على لقاء البابا في استقبال شعبي يليق بالزائر. بلغة دبلوماسية عمقها ديني وبعدها سياسي، شكا هموم بلده، وهو المطوَّق من الخارج ويعاني في الداخل من فئة أرادت التشويش على الزيارة بإثارة أمور لا تليق بالاحتفال ولا بالمحتفى به. الرئيس الماروني في مرمى سهام فريق مسيحي ماروني آخر، كلٌّ يريد رئيساً للجمهورية على مقاسه. اليوم تنتهي الزيارة الرسولية، ويعود الداخل إلى خلافاته، من دون أن يفوّت البعض الحديث عن البروتوكول في بلد لا يكاد يستطيع تمرير زيارة تاريخية لشخص بحجم وموقع بابا روما.

