أحمد الحاج علي-
مذبحة عين الحلوة أمس تفصل بينها وبين آخر مذبحة ارتكبها الطيران الإسرائيلي في المخيم 39 عاماً، حين استهدفت في العام 1986 صواريخ تلك الطائرات تجمعات مدنية وأسواقاً في المخيم. بدت تلك المذبحة كأنها ثأر خالص من صمود المخيم لحوالي أسبوعين قبل ذلك بأربع سنوات خلال اجتياح العام 1982.
في المذبحة الأولى في العام 1986 سقط حوالي 50 شهيداً؛ أي أكثر من ضعفي عدد شهداء مذبحة أمس، وكانت الخشية أن يستعيد الفلسطينيون خطة بدأت بحفر ثلاثة أنفاق موازية لانتقال الناس والذخيرة والآليات العسكرية بين مخيمي عين الحلوة والمية ومية، أما اليوم فالجدار يحيط بالمخيم، لكن (إسرائيل) تخشى المخيم أكثر، وتقول إنه متصل بالضفة الغربية.
صحيح أن المخيم، بين هذين الزمنين، انزاح بعضه في السياسة، والفتى أحمد عبد الهادي الذي فقد نصف قدرته على السمع خلال مذبحة 1986، قبل انطلاقة حركة حماس بعام، أصبح ممثل الحركة في لبنان، لكن في مخيم عين الحلوة يغتال الاحتلال كوادر وعناصر من حركتي حماس وفتح، ويتهم كلا الحركتين في المخيم بدعم المقاومة في فلسطين.
أن يُستهدَف ملعب مكشوف، يضم فتياناً وشباناً، من دون أن يكون بينهم شخصية سياسية معروفة، يشير إلى أن المعنى أوسع بكثير من المبنى المستهدف، وأن المعركة انتقلت إلى مرحلة جديدة، والرسائل لم تعد مشفّرة؛ بل هي من الوضوح بما يغني عن كثير من التحليل.
أولاً: جاء توقيت المذبحة بعد ساعات من عملية “ريفيديا” في الضفة الغربية، ولطالما ردد الاحتلال أن توجيه بعض العمليات في الضفة يجري من مخيم عين الحلوة، وأن تهريب بعض السلاح إلى هناك أيضاً يمرّ من المخيم. فوقعت اغتيالات عديدة تحت هذه الذريعة، من بينها استهداف ابن القيادي البارز في حركة فتح منير المقدح، وأخيه بعد ذلك، إضافة إلى أن استهدافات قيادات حماس والجبهة الشعبية في المخيم وبقية الجغرافية اللبنانية خلال العامين الماضيين كانت غالباً للسبب نفسه.
ومن الأسرار التي تنشرها “المدن” لأول مرة، أن بعض الذين قيل إنهم قُتلوا في مخيم عين الحلوة من حركة فتح خلال اشتباكات بين الحركة وإسلاميين، يُرجح، على ما يقول مطّلعون، أن (إسرائيل) هي من اغتالتهم خلال المعارك لاتهامات بارتباطهم بالضفة الغربية، أو القطاع الغربي كما كانت تسميه حركة فتح.
ثانياً: وقعت المذبحة بعد أيام من إفراج المحكمة العسكرية اللبنانية عن عدد من الفلسطينيين واللبنانيين قالت السلطات اللبنانية قبل ذلك إنهم مرتبطون بحركة حماس، وقاموا بإطلاق الصواريخ في آذار من العام الجاري نحو (إسرائيل)، وأعقب ذلك تحذير رسمي لبناني للحركة غير مسبوق. ولا يُستبعد أن يكون استهداف حركة حماس في مخيم عين الحلوة، تحذيراً للحركة ولبنان الرسمي معاً، بأن (إسرائيل) لن تسمح بأي تقارب جدي بين الطرفين، وسجّلت اعتراضها بالنار على قرار المحكمة العسكرية.
ثالثاً: إن هناك محاولة جدية لتشكيل نظام إقليمي جديد، بدأت ملامحه تظهر في غزة والضفة الغربية، كما في سورية، وهناك تنازع على شكله النهائي في العراق ولبنان وإيران نفسها، واللاجئون الفلسطينيون ليسوا بمعزل عن هذا المخطط. وإذا كان هؤلاء اللاجئون يُعمل على ضبط أدائهم السياسي في سورية، فإن هذا الأداء في لبنان، وفق النظرة الإسرائيلية، يحتاج إلى إعادة تقويم وتوجيه، وربما ترسيم جديد لتواجد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان عبر استهداف أكبر مخيماتهم. وتدور أسئلة حول إغلاق مداخل مخيم البداوي، إن كان ذلك يندرج في إطار ضبط حركة اللاجئين الفلسطينيين، تمهيداً لما هو قادم.
رابعاً: استهداف مراكز مدنية، بغض النظر إن كانت تتبع لحركة حماس أم لا، يعني أن لا خطوط حُمراً إسرائيلية في التعامل مع المخيمات الفلسطينيية في لبنان، كما كان يُشاع أو يُعمل به في السابق؛ بل إن المخيمات ببنيانها الهش، ومجتمعاتها الضعيفة، يمكن أن تتعرض لهجمات لاحقة، تحقق أكثر من هدف في الوقت نفسه: تحاول أن تضع شرخاً بين حركة حماس والجمهور الفلسطيني، كما تدفع فلسطينيين إلى الرحيل عن المخيمات، وربما الهجرة خارج لبنان في مرحلة قريبة.
الناطق باسم حركة حماس جهاد طه، في حديث إلى “المدن”، رأى أن هذه الجريمة “تبرهن على عنجهية العدو الصهيوني في الاستمرار بسياسة القتل والتشريد، وحرب الإبادة التي يمارسها على الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، وبالتالي هذه الجريمة في أكبر المخيمات الفلسطينية، هي مجزرة استهدفت المدنيين ومنشأة عبارة عن ملعب مفتوح. وهذا الاستهداف يتنافى مع كل القيم والأعراف، ولا بد للمجتمع الدولي أن يقف وقفة جادة بوجه هذه الممارسات”.
ودعا “أبناء شعبنا الفلسطيني إلى مزيد من اللحمة ولمّ الشمل، والحفاظ على الموقف الموحد بوجه هذه الغطرسة الصهيونية، وهذا ما تجلى في بيانات الفصائل الفلسطينية هنا في لبنان، وهو ما يعزز الوحدة الفلسطينية في هذا الإطار. وعلى جميع أبناء شعبنا العمل لتضافر الجهود من أجل بلسمة معاناة عوائل الشهداء والجرحى أمام هذه المجزرة الرهيبة. كما ندعو أشقاءنا هنا في حكومة لبنان، لأخذ الإجراءات السياسية والميدانية تجاه المؤسسات الأممية والمجتمع الدولي، وممارسة أقصى درجات الضغوط على الاحتلال الصهيوني لوقف مسلسل الإجرام الذي يمارسه بحق شعبنا وأرضنا ومقدساتنا”.
المؤشرات تدل إلى أن هذا المسلسل لا يبدو في نهايته، خاصة مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي حول غزة، وهو الأمر الذي يمنح راحة نسبية للاحتلال للتفرّغ لملف لبنان واللاجئين الفلسطينيين فيه، ويعزز هذا الاحتمالَ تراجعُ التصعيد العسكري الإسرائيلي في سوريا لاعتبارات إقليمية ودولية.

