Site icon Lebanotrend

رسائل الغارة بين العجز الإسرائيلي والمراهنة على تفكيك الداخل اللبناني

بقلم: بسام صراف

نفذت الطائرات الإسرائيلية مساء أمس غارة جوية استهدفت هنغارًا مخصصًا للنشاطات العاشورائية والخدمات الاجتماعية في منطقة حي الجاموس – الحدث، إحدى مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت.
الغارة، وإن جاءت محدودة ميدانيًا من حيث حجم الخسائر المباشرة، إلا أنها تحمل في طياتها أبعادًا سياسية عميقة، تسعى إسرائيل من خلالها إلى توجيه رسائل متعددة الاتجاهات، ضمن لحظة لبنانية دقيقة تتسم بالهشاشة السياسية والانكشاف الإقليمي.

بعيدًا عن التصريحات الإعلامية التقليدية، تندرج هذه الغارة في إطار استراتيجية إسرائيلية مستمرة قوامها الضغط المستمر والمتدرج على الداخل اللبناني، عبر استخدام الضربات الجوية الرمزية كأداة لخلق إرباك سياسي وإضعاف المبادرات الداخلية، دون الانزلاق إلى مواجهة شاملة قد تكون مكلفة في توقيتها وأبعادها.

اللافت أن الهدف لم يكن منشأة عسكرية أو موقعًا لوجستيًا، بل هنغارًا مدنيًا معدًا لخدمة مناسبات دينية واجتماعية، ما يعكس تحول الأهداف الإسرائيلية نحو ضرب الرمزية المجتمعية، ومحاولة المس بالمناعة النفسية للبيئة الحاضنة للمقاومة، عبر استهداف مقدساتها الاجتماعية ومناسباتها الدينية.

منذ توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني 2024، التزم حزب الله ضبط النفس الكامل وعدم الرد على الاستفزازات الإسرائيلية المتكررة، حرصًا على استقرار الساحة الداخلية وتفادي الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة تخدم أجندات خارجية.
بالمقابل، واصلت إسرائيل خروقاتها البرية والجوية والبحرية بشكل يومي تقريبًا، دون أن تواجه بردود ميدانية مباشرة، ما جعلها تراهن على إمكانية استثمار هذا الهدوء المقاوم لصالح تحقيق مكاسب سياسية داخل الساحة اللبنانية.

الغارة مساء أمس لم تأتِ في سياق اختبار قواعد اشتباك عسكري جديدة، كما قد يوحي ظاهرها، بل جاءت لتوجه رسائل سياسية ضاغطة، أولها إلى رئاسة الجمهورية اللبنانية، حيث يسعى الرئيس جوزيف عون إلى إطلاق مبادرة حوارية مع حزب الله خلال مهلة شهرين، تهدف إلى صياغة استراتيجية دفاعية وطنية تبحث مستقبل السلاح ضمن مظلة الدولة.
إسرائيل، من خلال هذه الضربة، أرادت إحراج الرئيس، وإظهار الدولة بمظهر العاجز أمام تكرار الاعتداءات على السيادة اللبنانية، وبالتالي عرقلة أي محاولة لبنانية مستقلة لتسوية داخلية.

أما الرسالة الثانية، فهي باتجاه المؤسسات الرسمية اللبنانية، التي تسعى إسرائيل لدفعها إلى مواقف أكثر تصلبًا وعدائية تجاه المقاومة، ولو كان الثمن المزيد من التفكك الداخلي.
وفي هذا السياق، يمكن فهم الغارة كجزء من محاولة ممنهجة لتعميق الانقسامات اللبنانية، وإعادة تعويم الخطاب الداخلي الذي يضع سلاح المقاومة موضع مساءلة واتهام، على قاعدة أن استمرار الاعتداءات دون رد يضعف موقع المقاومة أخلاقيًا وشعبيًا.

الرسالة الثالثة تتجه نحو الرأي العام الإقليمي والدولي، في محاولة لتصوير الساحة اللبنانية كساحة رخوة وغير قادرة على الدفاع عن سيادتها، بما يبرر في ذهن بعض الأطراف مزيدًا من الضغوط والعقوبات السياسية والاقتصادية.

الغارة، رغم رمزيتها، تعبر أيضًا عن عجز استراتيجي إسرائيلي متزايد.
فبعد سنوات من محاولات كسر المقاومة عبر الحروب المباشرة والاغتيالات والضغوط الاقتصادية، تجد إسرائيل نفسها مضطرة إلى الاكتفاء بضربات موضعية محدودة، في اعتراف ضمني بأن تعديل معادلة الردع لم يعد ممكنًا عبر الأدوات العسكرية التقليدية.

في هذا السياق، تكشف الضربة الجوية عن محاولة تعويض الفشل العسكري من خلال التصعيد الرمزي والنفسي، مع تعمد اختيار أهداف مدنية مرتبطة بالوجدان الشعبي، لإحداث أكبر قدر من الضجيج السياسي والإعلامي، دون تحمل تبعات مواجهة ميدانية واسعة.

لبنان اليوم أمام لحظة سياسية بالغة الحساسية.
المطلوب ليس فقط الإدانة التقليدية للعدوان، بل قراءة أبعاده العميقة، وإدراك أن معركة لبنان الحقيقية لم تعد فقط على الجبهات الحدودية، بل باتت معركة سيادة سياسية داخلية: هل يستطيع لبنان أن يحصن نفسه سياسيًا ووطنيًا في وجه محاولات التفكيك والشرذمة؟ أم أن الضغوط الخارجية ستنجح في زعزعة التماسك الهش، ودفع البلاد إلى مزيد من الانقسام؟

الغارة مساء أمس لم تكن مجرد اعتداء جوي عابر.
كانت إعلانًا إسرائيليًا واضحًا بأن المعركة على لبنان مستمرة، ولكن بأدوات جديدة: أدوات الضغط النفسي، والاستثمار في هشاشة الداخل، والرغبة المحمومة في تفكيك آخر معاقل الصمود الوطني في المنطقة.