عماد مرمل –
أياً تكن طبيعة الجواب الرسمي اللبناني الذي تلقّاه الموفد الأميركي توم برّاك رداً على الورقة التي سلّمها للمسؤولين، فإنّ «حزب الله» رسم الحدود الفاصلة بين الممكن والممنوع بالنسبة إليه في ملف سلاحه، فأقفل الباب على الخارج وتركه موارباً في الداخل.
إذا كان «الحزب» قد واجه بعض الصعوبة في تفسير مشروعية حرب الإسناد فإنّه هذه المرّة يجد نفسه في موقف دفاعي يُسهّل عليه تظهير شرعية خياره بالمواجهة إن لزم الأمر قالها الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم بوضوح في خطاب عاشوراء: «لا تسليم للسلاح ولا استسلام للمطالب الأميركية – الإسرائيلية». لكنّه في الوقت عينه لم يقفل الباب أمام فرصة التفاهم الداخلي حول مستقبل السلاح بعيداً من الضغوط والأجندات الخارجية، بل أعطى إشارات إيجابية إلى انفتاح «الحزب» على مثل هذا النقاش بعد تطبيق الكيان الإسرائيلي مفردات اتفاق وقف إطلاق النار، لناحية انسحابه من الأراضي الجنوبية المحتلة، وتوقف عدوانه، وإعادة الأسرى، وبدء الإعمار، «وبعد ذلك نحن حاضرون لنناقش الأمن الوطني والاستراتيجية الدفاعية، ولنرى كيف يكون بلدنا قوياً في الاقتصاد والعسكر والأمن والسياسة وبناء الدولة، ولدينا من المرونة ما يكفي من أجل أن نتراضى ونتوافق، لكن اتركونا وحدنا».
كذلك، كان لافتاً في أدبيات قاسم في خطاب عاشوراء تشديده على منظومة الدفاع برعاية الدولة تحديداً، معتبراً أنّه «يجب على أولئك الذين يتفرّجون أو يُضيّقون علينا أن ينضمّوا إلى منظومة الدفاع برعاية الدولة التي عليها أن تتصدّى بكل الوسائل إن لم تنفع الدبلوماسية».
بهذا المعنى، فإنّ قاسم كان حريصاً على تثبيت المعادلة الآتية: تشدّد وثبات في مواجهة الطلبات الخارجية، ومرونة وليونة في محاكاة الداخل من خلال تأكيد ضرورة أن تؤدّي الدولة دورها في كل أشكال المواجهة، والإيحاء بالاستعداد للذهاب بعيداً في التعاون والتحاور، سعياً إلى إيجاد استراتيجية دفاعية تسمح بتوظيف السلاح تحت سقف «الأمن الوطني» الذي هو مصطلح اقتبسه قاسم من قاموس رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، في ما بدا أنّها لفتة إيجابية نحوه.
في المقابل، لا يُخفي «الحزب» إصراره على عدم تسليم السلاح، حتى لو كلّفه ذلك خوض حرب جديدة يُفضّل أن يتفاداها، إلّا أنّه متأهب لها أياً تكن كلفتها عليه.
وإذا كان «الحزب» قد واجه بعض الصعوبة في تفسير مشروعية «حرب الإسناد» في اعتباره كان المبادر إليها، فإنّه هذه المرّة يَجد نفسه في موقف دفاعي بالكامل، لا يحمل من منظاره أي التباس أو تأويل، ما يُسهّل عليه تظهير «مظلوميّته» وشرعية خياره بالمواجهة إن لزم الأمر.
هذه المرّة لا يقف «الحزب» في موقع إسناد حركة «حماس» داخل قطاع غزة، بل هو في موقع إسناد أصل وجوده داخل لبنان. إنّها معركة دفاع عن النفس مكتملة المواصفات وفق مقاربة الحزب وبيئته، ولذا فهو مستعد لخوضها إذا أرادها الأميركي والإسرائيلي.
وما يُعزّز إقتناع «الحزب» بأنّ المواجهة، ولو كانت غير متكافئة، تبقى أفضل من التسليم الطوعي، هو ما انتهت إليه اختبارات وتجارب مماثلة لجهات سبق لها أن تخلّت عن خيار السلاح والمقاومة، فدفعت ثمن ذلك غالياً.
وضمن هذا السياق، يُلفت المتحمّسون لـ«الحزب» إلى تجربة منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت عام 1982 حين وافقت على الانسحاب وسحب السلاح مقابل ضمانات دولية، فإذا بتلك الضمانات تُذبح مع ضحايا مجزرة مخيّمَي صبرا وشاتيلا من المدنيِّين، بعدما اجتاح جيش الاحتلال العاصمة. ويُضيف هؤلاء: أيضاً، عندما سقط نظام الرئيس السابق بشار الأسد قبل أشهر وحلّ مكانه نظام الرئيس أحمد الشرع الذي لم يُبدِ أي عداء للكيان الإسرائيلي، أصرّت تل أبيب على قصف مقدّرات الجيش السوري مع أنّه لم يَعُد يُشكّل تهديداً لها، واحتلّت أجزاء إضافية من الجنوب السوري من دون أن تنفع معها كل رسائل المهادنة.
إلى جانب الخطر الإسرائيلي من الحدود الجنوبية، يأخذ «حزب الله» في الحسبان أيضاً التهديد التكفيري المحتمل من الحدود الشرقية. ولعلّ المجزرة التي تعرّض لها العلويّون في الساحل، وتفجير الكنيسة العائدة للمسيحيِّين الأرثوذكس في دمشق، والمواجهة التي حصلت مع الدروز في السويداء… ساهمت كلها في تعزيز هواجس «الحزب» وبيئته حيال ما يمكن أن يتعرّض له لبنان أو أحد مكوّناته إذا استُغنِيَ عن السلاح في هذا الظرف المفصلي.
وبناءً على التحدّيات الاستراتيجية الداهمة، يُصنّف «الحزب» التوقيت الحالي بأنّه الأسوأ لمطالبته بترك السلاح، بينما يشعر خصومه بأنّه التوقيت الأفضل للتخلّص من هذا السلاح. وما بين المقاربتَين هوّة لن يكون من السهل ردمها.