جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة-
لا تزال تظاهرات النازحين السوريين في لبنان لمناسبة الذكرى الأولى لسقوط نظام بشار الاسد والتي حصلت الاثنين 8- 12- 2025، تتفاعل داخل الأوساط السياسية، وتستأثر بحيز كبير من تعليقات السفراء المعتمدين في بيروت ومداولاتهم وتحليلاتهم. وهي موضع متابعة جادة ومجهرية لدى الأجهزة الأمنية، بعدما نجح الجيش في احتوائها وحصر تداعياتها. وإنّ هذه الأجهزة التي تؤكّد أنّ الوضع هو تحت السيطرة، فإنّها في حال استنفار ومتابعة دائمين، واستباق أي محاولة لتكرار ما حصل، لأنّ الوضع دقيق، وليس سهلاً، وأنّه لا تجوز الاستعانة بملف النزوح الذي يستودع غير قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في اي وقت.
وقبل الولوج في أي مقاربة تحليلية، تجدر الإشارة إلى أنّ هؤلاء على اختلافهم، يُجمعون على أنّ ما جرى ذاك الاثنين لم يكن حدثاً عابراً ومجرداً من أي خلفية، وأنّ ثمة من حرّك ورقة النازحين في هذا التوقيت الملتبس الذي يمرّ فيه لبنان. وفي مجلس خاص ضمّ نخباً سياسية تشغل مناصب رفيعة، كان سؤال كبير: هل إنّ هذه التظاهرة كانت» هراوة» سياسية، لوّحت بها بعض الجهات الدولية والإقليمية للمسؤولين في البلاد لكي ينصاعوا للإملاءات التي لا قدرة لهم على تبنّيها وتنفيذها، في ظلّ الاعتداء الإسرائيلي الدائم على لبنان، واحتلال مواقع في جنوبه، ومنع السكان من العودة وإعادة الإعمار وعدم إطلاق السجناء اللبنانيين المحتجزين لدى الدولة العبرية. ويحظى النظام الجديد في سوريا بدعم الولايات المتحدة الأميركية الواسع، ولو أنّ رفع العقوبات عن الرئيس أحمد الشرع رُبط بمراجعة دورية لسلوك النظام وأسلوب حكمه.
ولعلّ أبرز مؤيّدي الشرع وداعميه والداعين إلى تكليفه إدارة الملف اللبناني البالغ التعقيد هو موفد واشنطن إلى دمشق توم برّاك، الذي لا يتوقف عن الإشادة بالرئيس الجديد لسوريا وديناميته، والتسويق لدور أوسع له في المنطقة انطلاقاً من لبنان. وهذا الأمر يذكّر بـ«تلزيم» الولايات المتحدة لبنان للرئيس الراحل حافظ الاسد بمظلة عربية وصمت إسرائيلي، فُسّر في حينه موافقة ضمنية. وهذا ما لمسناه في العام 1976. وتكرّر الأمر مع دخول دمشق التحالف الدولي في مواجهة احتلال صدام حسين للكويت. وهكذا استطاعت سياسة التخادم بين سوريا والولايات المتحدة وبمعرفة من الاتحاد السوفياتي حينذاك، أن تعطي دمشق الأرجحية في الإمساك بالملف اللبناني وإدارته، بما ينسجم مع مصالحها التكتيكية والاستراتيجية حتى العام 2005 عندما تبدّل المشهد، خصوصاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وصدور القرار الرقم 1559. وعلى رغم من قرب برّاك من الرئيس دونالد ترامب، فثمة من لا يشاطره هذا الرأي وهذا الاقتناع في الإدارة الأميركية، وفي مقدمهم سفير الولايات المتحدة في بيروت ميشال عيسى، الذي يقول عنه من التقاه من المسؤولين اللبنانيين، انّه الأكثر معرفة ودراية واهتماماً بقضايا وطنه الأم الذي غادره شاباً، وعاصر الأحداث التي عصفت به واستخلص منها أمثولات وعِبَراً تساعده في صوغ مقاربة أكثر موضوعية وتماساً مع الحقائق والوقائع. وكذلك مورغان أورتاغوس، وسواها من المهتمين بالملف اللبناني. وهناك من يهمس أنّ هناك أسباباً إقتصادية هي وراء إصرار برّاك على أن يكون للشرع دور كبير في لبنان يقارب دور «الوصي». والضغط السياسي والأمني من أجل أن يقبل المسؤولون اللبنانيون بإنشاء المنطقة الاقتصادية في الناقورة، وعدم ربط قيامها بتنفيذ القرار الرقم 1701، وقرار وقف إطلاق النار الصادر في 27 تشرين الثاني 2024.
ويقول سياسي في تيار بارز، إنّ ما حصل ليل الاثنين في الثامن من كانون الأول الجاري، كان أقرب إلى الانتشار الأمني ـ السياسي في مناطق معينة لغايتين رئيسيتين:
الأولى: إنتاج حال من التوتر والحذر المتبادلين بين السنّة والشيعة، خصوصاً في مناطق التماس، والمناطق المشتركة، ليسهل العبث بالاستقرار العام في البلاد.
الثانية: إنتاج مشهد سياسي جديد في الوسط السنّي، من خلال إبراز شخصيات وقوى وحركات جديدة تحلّ تدريجاً محل التيارات والقوى التي كانت تتقاسم هذا الوسط. وهكذا يتشكّل واقع سياسي مختلف لدى الطائفة السنّية، من خلال وجوه وكيانات على حساب ما كان سائداً حتى الأمس القريب. لكن السؤال: هل تنجح هذه الخطة؟ وكيف ستُترجم؟ هل بمزيد من الضغط الخارجي، وتحديداً الغربي، لكي يتعاطى الشرع الملف اللبناني من ضمن السقوف التي ستُرسم له، من دون التصادم مع إسرائيل، أو أنّ ما نشهده يدل إلى عدم تبدّل جوهري في السردية السورية التاريخية تجاه لبنان، الذي تعتبره في شكل أو في آخر، جزءاً منها، أو على الأقل «جغرافيتها»، ولو أنّ القيّمين في البلدين يعرفون تماماً أنّ العودة إلى إحياء هذه السردية على أرض الواقع لم يعد ممكناً، وأنّ الحديث عن العبث بمندرجات إتفاق «سايكس – بيكو» وخرائطه قد يكون حاضراً في التمنيات والأدبيات السياسية المستجدة، والخطط والمشروعات الدولية والإقليمية. ولكن وقائع الارض لها الدور الأكبر في حمل العابثين على التفكير جيداً، إذا كانت هذه المغامرة قابلة للتحقيق أم لا.

