هيام القصيفي-
لا تحمل المحطات الميدانية الأخيرة تحوّلاً في مسار الوضع اللبناني العام، في انتظار انكشاف مزيد من التطورات العسكرية والسياسية. لكن المراوحة الحالية لا تبشّر بالخير، في وقت لا تزال فيه الرسائل الديبلوماسية التي تصل الى لبنان تحمل علامات قلق من المستقبل، مع تمسّك إسرائيل بموقفها المعلن باستمرار نهج التدمير والقصف حتى فرض واقع جديد يعيد صورة «الشريط الحدودي» بمعناه الواسع، وبتطبيق عملاني للقرار 1559.
في هذه الأثناء، تستمر قراءة مستقبل الوضع الداخلي ربطاً بعاملين. في المشهد الإقليمي، تنذر حرب لبنان، في إطار أوسع مما جرى في غزة، بأن المتغيرات المقبلة على المنطقة كبيرة بحجم المشروع الذي يُبنى والذي انطلق منذ 7 تشرين الأول من غزة، وجرف في طريقه لبنان، ويلامس إيران وسوريا ودول الجوار، ويأخذ منحى مختلفاً عن ذلك الذي كان مقصوداً من الحدث الذي أطلقه صانعوه قبل عام. فما حصل تحوّل إلى أداة في يد واضعي خطط المنطقة، مستفيدين من المتغيرات الميدانية، لتحقيق مشاريع أوسع وطويلة الأمد. لكن لبنان، وهو الحلقة الأضعف في المشهد الإقليمي، من الصعب أن يتجاوز الخضة الداخلية والعاصفة التي هبّت عليه بأقل أضرار ممكنة.
قبل اندلاع الحرب، بوجهها اللبناني، كان هناك تحذير دائم من خصوم حزب الله من تحوّل لبنان إلى غزة ثانية، بمعنى الانهيار الداخلي الاقتصادي والاجتماعي وتحوّله إلى مجتمع حرب دائمة. وكان هؤلاء يحمّلون الحزب وسلاحه مسؤولية هذا المنحى الذي يخالف رغبة العاملين على مشروع مختلف للبنان مزدهر. وبعد تطورات الشهرين الأخيرين، وحملة التدمير الممنهج من الجنوب الى البقاع والضاحية، تكررت المخاوف، ولكن من جانب حلفاء الحزب، من أن يكون الهدف خلق غزة ثانية، بالمعنى العسكري والميداني، عن طريق محو كل ما يقف في طريق خطة إسرائيل لمستقبل غزة. لكن النظرة المغايرة، تضع سوريا كنموذج لما يحصل في لبنان حالياً وليس غزة، أولاً لجهة مفهوم الوطن والدولة القائمة بغضّ النظر عن النظرة إليها في لبنان وسوريا والجغرافيا المعترف بها، بما هو مختلف تماماً عن غزة، وثانياً، لتشابه تركيبتَي لبنان وسوريا الى حدّ كبير لجهة التنوع الطائفي والسياسي، وثالثاً أن حرب سوريا التي بدأت تدريجاً وانفجرت في صورة عشوائية وعنيفة أدّت الى حركة نزوح داخلية كبيرة على قاعدة طائفية واجتماعية كما يحصل في لبنان اليوم، ورابعاً أن حركة النزوح من سوريا نحو دول الجوار بدأت تفرض إيقاعها، وإن بأعداد أقلّ، من لبنان في اتجاه سوريا والعراق، عدا عن مغادرة اللبنانيين جماعاتٍ بلدهم، وإن كانت هذه المغادرة أكثر تمايزاً لجهة واقع الانتشار اللبناني والعمل والدراسة في الخارج. بذلك يصبح النموذج السوري، وبما وصل إليه من ارتدادات وتدخلات خارجية وانهيار داخلي، أقرب الى الحالة اللبنانية. لكن ذلك يعكس مخاوف تنذر حتى الآن بالقلق خشية تفاقمها.
الحرب الأهلية التي يتخوّف الفرنسيون منها في لبنان أقرب إلى مثال سوريا
ما قبل الحرب الأخيرة، ومع ارتفاع الكلام عن الفيدرالية لدى بعض المجموعات والشخصيات عبر إطلالات سياسية وإعلامية، كان جمهور حزب الله وحلفاؤه أكثر الذين انتقدوا مروّجي هذا الكلام، عدا عن شخصيات مسيحية لا تزال تتمسك حتى الآن بفكرة لبنان القائم وفق نظام اتفاق الطائف وتركيبته الحالية. لكن في الوقت نفسه، كان الحزب متهماً بأنه يطبق نوعاً من الفيدرالية في مجتمع منسجم ومندمج في مناطق الجنوب والبقاع، بما يخدم خصوصية الثنائي الشيعي من دون غيره، وهذا الكلام كان معززاً بشواهد عن التفاعل ضمن بيئة من لون واحد بعيداً عن المجتمعات الأخرى. مع حركة النزوح الأخيرة، خرج جمهور الثنائي وقاعدته من هذا الإطار الى مناطق الداخل، مندمجاً مجدداً مع قواعد الطوائف والأحزاب الأخرى، وهو أمر مرشح لأن يطول بفعل استمرار الحرب وآلة التدمير التي لا تسمح للنازحين بالعودة قريباً. وهنا يصبح الكلام أكثر دقّة بين انفلاش سجال حول ثلاثة اتجاهات، واحد يرى ما يحصل احتضاناً لبنانياً صافياً وتلقائياً وتهليلاً لفكرة العيش المشترك، وآخر لا يرى فيه إلا تجاوزات من المجتمع المضيف الحزبي الخصم لحزب الله لا المجتمع النازح ويلوّح بحسابات مستقبلية معه، وثالث لا يرى في الحركة القائمة إلا مشهد التجاوزات المرشحة للتفاعل. والاتجاهات الثلاثة لها طواقمها السياسية والإعلامية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهنا يصبح الكلام عن الترويج المستمر لفكرة الحرب الأهلية التي لا يزال الفرنسيون يتخوّفون منها ويصرّون على التداول بها، أقرب الى مثال سوريا. ولبنان الذي خبر أنواعاً من هذه الحروب، طوال خمسين عاماً، بات يحتاج الى جهود مضاعفة لكبح مسار أي تحوّل من الحرب الإسرائيلية الى تفلّت داخلي، يصاحبه تدهور تدرّجي يشكل عامل إفادة لكثير من العناصر الداخلية والخارجية في الانتقال من مرحلة الى أخرى.
عام 1975، لم يظنّ اللبنانيون أن حروبهم ستمتدّ خمسين عاماً، وحين اندلعت تظاهرات سوريا لم يتوقّع السوريون أن تمتد حربهم 13 عاماً. لذا يصبح اللجوء الى تماسك داخلي في اللحظات الحرجة الحالية مطلباً أكثر إلحاحاً من السنوات السابقة، وحزب الله واحد من المطالَبين بذلك، لأن الحرب الإسرائيلية لا تقلّ خطراً عن كل ما يرتسم من مخاوف خارجية على الوضع الداخلي.