Site icon Lebanotrend

المصارف في ذروة انتصارها: شكراً سعادة الحاكم! (علي نور الدين – المدن)

لم يكن بإمكان المصارف أن تحلم، في أفضل السيناريوهات التي تخايلتها، بأكثر مما حصلت عليه هذا الأسبوع، في التعميم الصادر عن مصرف لبنان. هو الكابيتال كونترول، تماماً كما أرادت، وإن لم يأتِ بصورة تشريع أو قانون صادر عن المجلس النيابي. القرار الذي صدر عن مصرف لبنان، والذي منع تسديد الودائع القديمة، أو اللولار كما باتت تُعرف، لم يحمل جديداً من ناحية آليّات السحب من هذه الأموال، التي ستبقى محكومة بالتعاميم السابقة الصادرة عن المصرف المركزي. لكنّ التعميم يؤمّن ما هو أهم بكثير بالنسبة للمصارف: الغطاء الذي تحتاجه أمام المحاكم أو الملاحقات القانونيّة، في لبنان أو الخارج.

لا يهم، بالنسبة للمصارف، إذا جاء القرار بموجب تشريع، أو بموجب قرار إداري كحال تعميم مصرف لبنان. في النهاية، المطلوب هو هذه الوثيقة التي تبرّر أمام أي جهة قضائيّة ما يجري من امتناع عن تسديد الودائع. تفادى النوّاب ارتكاب فظاعة أخلاقيّة بحجم منح هذا الغطاء، فجاء القرار من المصرف المركزي، ليتحمل الحاكم على عاتقه هذه المسألة. ومفاعيل الخطوة تتجاوز الجانب القانوني. فهي منحت المصارف الهامش، أو الحماية المطلوبة، للإمعان في عرقلة الحلول الماليّة المطروحة، بذراعها الطويلة داخل الدولة، من دون أن تخشى من تفاقم الضغوط القانونيّة عليها من جانب المودعين. إذاً، هي خطوة تتكامل مع المشهد العام، على مستوى التباطؤ الحاصل في الإصلاحات الاقتصاديّة، واحتمالات العودة إلى سيناريوهات العام 2020: التواطؤ لتطيير المعالجات الماليّة.

 

يوم احتجنا فعلاً هذا القرار

برّر الحاكم خطوته بتأمين المساواة بين المودعين، لجهة قدرتهم على السحب من الودائع بالعملات الأجنبيّة. أو بصورة أوضح، أراد الحاكم الإيحاء بأن تعميمه يهدف إلى منع الاستنسابيّة في السحب من الودائع القديمة، والحؤول دون استفادة مودعين بعينهم من سحوبات استثنائيّة من هذا النوع، على حساب سائر المودعين. ظلمٌ بالسويّة، عدلٌ بالرعيّة. هذا لسان حال التعميم.

غير أنّ العارفين بحكاية مشروع قانون الكابيتال كونترول، وما جرى تهريبه من ودائع طوال سنوات الأزمة، يعلمون أنّ ثمّة رواية أخرى. وأنّ هذا التعميم يخدم مصالح من نوع آخر.

بالفعل، كان ثمّة حاجة لقانون كابيتال كونترول، أو آليّات تفرض قيوداً على السحوبات والتحويلات، في أولى أشهر الأزمة، في أواخر العام 2019 والنصف الأوّل من العام 2020. وذلك لوقف ما كان يجري يومها من عمليّات تهريب للودائع، لحساب بعض النافذين في القطاع المصرفي. وكان مصرف لبنان يعلم، علم اليقين، أنّ تهريب الأموال من المصارف لحساب فئات محظيّة كان يجري على قدمٍ وساق.

تشير أرقام ميزان المدفوعات اللبناني أنّ حجم الأموال التي خرجت من القطاع المصرفي، على امتداد أعوام الأزمة، بلغ أكثر من 20.6 مليار دولار أميركي، من دون أن يكون هناك ما يبرّر هذا الرقم على مستوى الأموال التي تم تخصيصها لدعم استيراد السلع الحيويّة. مع الإشارة إلى أنّ استيراد السلع غير المدعومة كان يتم بالدولارات النقديّة، التي يجري جمعها من السوق، وهو ما لم يستنزف دولارات القطاع المصرفي. ببساطة، كان المصرف المركزي يرى بأمّ العين الأدلة على تهريب أموال المصارف، لحساب فئة صغيرة من المودعين، من دون أن يحرّك ساكناً.

في بدايات الأزمة، انتفضت المصارف رفضاً لإقرار قانون الكابيتال كونترول، الذي كان من شأنه أن يحد من تهريب الودائع. وبيان جمعيّة المصارف موجود على الإنترنت لمن يريد الاطلاع عليه، وفيه ترحيب الجمعيّة بتطمينات الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، لجهة عدم وجود نيّة باعتماد آلية الكابيتال كونترول. يوم احتجنا الكابيتال كونترول بالفعل، لمنع تهريب الأموال، كانت الآية معكوسة، وكانت الجمعيّة ضد الكابيتال كونترول!

اعتبر رياض سلامة أنّ فرض قيود على السحوبات والتحويلات يخرج عن صلاحيّاتها، ورمى الكرة في ملعب المجلس النيابي. وطلب رئيس المجلس النيابي نبيه برّي الترحّم على الكابيتال كونترول، في إشارة إلى رفضه تشريع هذه القيود في المجلس. فيما تقاطع معه، على المبدأ نفسه، رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان.

 

من يخدم القرار اليوم؟

بعد مرور خمس سنوات وأربعة أشهر على بدء الأزمة، تمّ تهريب ما أمكن تهريبه من القطاع المصرفي. وانقلب موقف جمعيّة المصارف، فأصبحت من أشد المطالبين بالكابيتال كونترول، أو أي قرار إداري يمكن أن يؤدّي الغرض نفسه. وحاجة الجمعيّة لقوننة ممارستها بحق المودعين، تنبع من ضرورة وجود غطاء يحميها من مطالبات ودعاوى المودعين، التي اشتدّت وطأتها خلال الفترة الماضية. إذ طالما أنّ اللوبي المصرفي يعمل بكل جوارحه لعرقلة الحلول الماليّة، التي تعالج وضع المصارف، ثمّة حاجة موازية لقرارات تنظيميّة أو قوانين تشرّع الوضع القائم على المدى البعيد. وهذا ما حقّقه تعميم مصرف لبنان الأخير.

بيان الانتصار، الصادر عن جمعيّة المصارف يوم أمس، كان أبلغ دلالة على احتفائها بقرار مصرف لبنان، وعلى رغبتها الجامحة بالحصول على حماية قانونيّة من هذا النوع. وعبارات المديح والثناء التي حملها البيان، لحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، عبّرت جيّداً عن نوعيّة المصالح التي يخدمها قرار مصرف لبنان.

تطول لائحة الأسئلة هنا: كيف أصبح لمصرف لبنان صلاحيّة فرض وتنظيم القيود على التحويلات والسحوبات اليوم، حين أصبحت هذه القيود تخدم مصالح المصارف، بينما لم يتم فرض هذه القيود في بدايات الأزمة، بذريعة عدم امتلاك الحاكم هذه الصلاحيّة؟ وكيف أصبحت هذه القيود محل إشادة من قبل جمعيّة المصارف اليوم، بعدما كانت الجمعيّة تقاتل بكل جوارحها ضد هذه القيود في بدايات الأزمة؟ وإذا كانت هذه القيود مهمّة لمنع الاستنسابيّة في إجراء التحويلات والسحوبات، لماذا لم يتم فرضها في أولى أيّام الأزمة، حين كان تهريب الودائع يجري على قدم وساق؟ 

أمّا السؤال الأهم: هل يمهّد قرار مصرف لبنان لفترة طويلة من المرواحة على مستوى الإصلاحات الماليّة؟ أي بصريح العبارة، هل يأتي هذا القرار ليغطي المصارف، استباقاً لمرحلة طويلة من استمرار حجز الودائع، والتأخير في إقرار مشروع إعادة هيكلة المصارف؟ هل لهذا القرار علاقة بما نشهده من عراقيل لكل المسارات الإصلاحيّة الماليّة؟