Site icon Lebanotrend

القانون المعلّق والمواعيد المجهولة: اللعب على حافة التأجيل!

أنطوان الأسمر –

تبدو التطورات الأخيرة في ملف الانتخابات النيابية مؤشراً مقلقاً إلى أن لبنان قد دخل فعلاً في مرحلة التفخيخ الانتخابي، أي في عملية منهجية تهدف إلى تعطيل الاستحقاق المقبل تحت غطاء الخلافات التقنية والتسويات القانونية. ما يجري في ملف اقتراع غير المقيمين ليس تفصيلاً إجرائياً كما يُروّج، بل جزء من مشهدٍ سياسي أوسع يشي بأن النية تتجه نحو فتح الباب أمام التأجيل، وربما التمديد المقنّع للمجلس الحالي بذريعة الظروف والاستحقاقات المتداخلة.

فإقرار مجلس الوزراء مشروع القانون المعجّل المكرّر لتعليق المادة 112 من قانون الانتخاب، تحت عنوان تصحيح مسار اقتراع المغتربين، لم يأتِ بمعزل عن سياقٍ سياسي متشعّب. هذه الخطوة تحمل في طيّاتها إشارات عميقة إلى أن ثمّة من يريد إعادة خلط الأوراق الانتخابية وخلق مساحات رمادية جديدة في القانون، تسمح بإعادة فتح النقاش من الصفر حول آليات الاقتراع وتوقيت الانتخابات.

الملف في جوهره لم يعد قانونياً فحسب، بل أصبح أداة في لعبة سياسية مفتوحة. إذ تتقاطع فيه مصالح قوى أساسية داخل السلطة ترى في تأجيل الانتخابات فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب أوراقها في ظل التراجع الشعبي والارتباك التنظيمي. أما القوى الأخرى، التي تدّعي الحرص على الاستحقاق، فهي تمارس ازدواجية واضحة بين خطابها العلني المتمسك بالانتخابات، وسلوكها العملي الذي يساهم في تفخيخ الطريق إليها.
يغذّي هذا المناخ الحديث المتزايد عن اقتراحات تدور في الكواليس بين خيار التمديد لمدة سنتين، أو الذهاب نحو تجديد ولاية المجلس كاملة تحت حجّتيّ الظروف القاهرة والاستقرار الوطني. وبينما تنفي بعض القوى السياسية، وعلى رأسها القوات اللبنانية، أي نية في التمديد، فإن المراقبين يرصدون ملامح تفاهمات غير معلنة تُطبخ بهدوء في الكواليس البرلمانية والحكومية، هدفها الفعلي إرجاء الانتخابات تحت عنوان ضرورة انتظار مآل سلاح حزب الله.

في الأصل، شكّل النقاش في كل قانون انتخاب مادة خصبة للخلافات. ففي كل مرة يقترب فيها لبنان من موعد انتخابي، تُفتح دفاتر الخلاف التقني، ليتحوّل الجدل إلى أداة سياسية تتيح للبعض كسب الوقت وإعادة رسم التوازنات. واليوم، يبدو أن السيناريو ذاته يُعاد إنتاجه، لكن في ظروف أكثر هشاشة وخطورة، لأن الثقة الشعبية بالمؤسسات بلغت أدنى مستوياتها، فيما الانقسام السياسي بات أعمق من أي وقت مضى.

من زاوية أخرى، فإن توقيت طرح النقاش الخلافي الحاصل ليس بريئاً. فمع اقتراب المهَل الانتخابية، يُفترض أن يكون الهمّ منصبّاً على ضمان انتظام العملية، لا على فتح نقاشات جديدة قد تطيح بالروزنامة القانونية كلها. غير أن ما جرى في مجلس الوزراء أعاد خلط الحسابات، وسمح بظهور تأويلات متضاربة، ما بين من يرى أن الحكومة تحاول تدارك أزمة دستورية محتملة، ومن يعتبر أن ما يجري هو خطوة استباقية هدفها إدخال البلاد في متاهة قانونية تسمح لاحقاً بتبرير التأجيل.

لا يمكن فصل هذه التطورات عن المناخ السياسي العام. فالمسار الحكومي، كما النيابي، يسير في اتجاه يُظهر تواطؤاً ضمنياً بين أكثر من طرف على إبقاء المشهد ضبابياً. فكل فريق يستخدم ملف الانتخابات كورقة ضغط في مفاوضاته مع الداخل والخارج.

في المقابل، يراهن بعض المراقبين على أن الضغط الدولي، ولا سيما الأوروبي، قد يشكّل عامل كبحٍ لأي محاولة لتطيير الانتخابات، خصوصاً أن المساعدات والبرامج المرتبطة بالإصلاح مشروطة باستمرارية المؤسسات الدستورية. إلا أن التجارب اللبنانية السابقة تُظهر أن الخارج غالباً ما يتعامل بمرونة مع “التمديدات” حين تكون مبرّرة داخلياً بالاستقرار الأمني أو الشلل السياسي.

بذلك، يصبح السؤال الأساسي اليوم: هل بدأ فعلاً مسار تأجيل الاستحقاق النيابي؟ المؤشرات كثيرة: تلبيس القانون التباسات غير حقيقية، خلافات تقنية مفتعلة، غياب توافق سياسي صريح، ومزاج عام عند أكثر من فريق سياسي لا يُبدي استعجالاً في خوض معركة انتخابية غير مضمونة النتائج. كل ذلك يضع البلد أمام احتمالٍ واقعي يتمثل في ترحيل الانتخابات، لو بذرائع موقتة، على أن يتكرّس الأمر لاحقاً كأمر واقع، كما حدث في محطات سابقة.

في المحصّلة، لا يبدو أن النقاش الدائر حول اقتراع غير المقيمين سوى غطاء لتوجهٍ أعمق نحو تفخيخ العملية الانتخابية من داخلها. فبين تسويات السلطة، ومناورات القوى السياسية، تدخل الانتخابات مجدداً نفق الشكوك.