الديار: عبد المنعم علي عيسى-
أصدر الرئيس السوري أحمد الشرع، يوم الأحد 5 تشرين أول الجاري، المرسوم 188 للعام 2025 القاضي بتحديد العطل التي يستفيد منها العاملون في الدولة الخاضعون لأحكام القانون الأساسي للعاملين فيها ذي الرقم 50 للعام 2004 وتعديلاته، والفعل ليس حدثا عاديا أو طارئا، بل هو يندرج في سياق صياغة جديدة للذاكرة الجمعية للسوريين، التي مضى على أولى تجاربها نحو مئة عام، عندما أصدر رئيس الدولة، صبحي بركات الخالدي شهر تشرين ثاني من العام 1925 قرارا يحدد فيه أيام العطل للموظفين، ومن بين ما يثير الإهتمام في ذلك القرار أعياد ثلاثة، الأول هو اعتبار عيد الغفران(يوم كيبور) يوم عطلة رسمية للموظفين من الطائفة الموسوية(اليهودية)، كما نص القرار على «اعتبار اليوم الوطني الفرنسي، 14 تموز، يوم عطلة رسمي في البلاد»، وكذلك اعتبر «يوم الهدنة 11 تشرين ثاني»، وهي الهدنة التي وقعتها ألمانيا مع قوات الحلفاء بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى العام 1918.
وفي شرح ذلك يمكن القول أن تحديد «عيد الغفران» كعطلة رسمية كان تعبيرا عن حال الإنسجام الحاصل مع الجالية اليهودية التي تعيش في سوريا حينها، والتي تشير احصائيات رسمية إلى إنها كانت عند 100 ألف مواطن، وكذا تشير إلى نظرة مجتمعية كانت قائمة وهي تميل نحو الإعتراف بـ«المظلومية» اليهودية والتي لم يكن السوريون مدركين جيدا للمرامي التي تؤسس لها، أما الثاني، اليوم الوطني الفرنسي، فيشير تحديده كيوم عطلة إلى رغبة في مهادنة «الإنتداب» على الرغم من أن ما شهده ذلك اليوم من العام 1790، سقوط سجن «الباستيل»، كان حدثا عالميا، أما الثالث، عيد «الهدنة»، فيشير إلى محاولة تعزيز نزعة الإحتفاء بالسلام ونبذ الحرب، وإن كان فيه نفحة «إعجاب» مستترة بألمانيا.
أبقى المرسوم الجديد على الأعياد الدينية، الإسلامية والمسيحية، على حالها دون تعديل يذكر، إلا إن «الإلغاءات» و«الإضافات» التي جاء عليها المرسوم كانت إشكالية على اعتبار أن كلا منها كان يطول جزءا من الذاكرة الجمعية للسوريين، أو لجزء منهم على الأقل، ففي الإولى، الإلغاءات، تضمن المرسوم إلغاء لأربع مناسبات هي 8 آذار، ذكرى وصول حزب «البعث» إلى السلطة في العام 1963، وعيد المعلم، الذي كان يحتفل فيه يوم الخميس الثالث من شهر آذار، وحرب تشرين، وعيد الشهداء، الذي يصادف في السادس من أيار، وهو اليوم الذي نفذت فيه السلطات العثمانية أحكام أعدام بحق أكبر عدد من الوطنيين اللبنانيين والسوريين، في بيروت ودمشق، العام 1916، ضمن سلسلة الإعدامات التي امتدت ما بين آب 1915 و كانون ثاني 1917، وفي الثانية، الإضافات، كانت هناك اثنتان على درجة عالية من الأهمية، الأولى التي أطلق عليها اسم «عيد التحرير»، 8 كانون أول الذي يصادف يوم سقوط نظام بشار الأسد، والثانية يوم «انطلاق الثورة»، 18 آذار، وقد كان لافتا اختيار هذا اليوم الأخير بدلا من 15 آذار الذي شهد اعتصاما مدنيا أمام السفارة السورية بدمشق كنوع من الإحتجاج على ممارسات السلطة في قمع الحريات، وهو ما اعتبره الجزء الأوزن من السوريين يوم انطلاقة الثورة ضد نظام الأسد، أما 18 آذار فهو اليوم الذي شهد فيه «جامع العمري» بدرعا اعتصاما كانت العديد من التقارير الغربية قد وصفته بـ«التمرد المسلح»، و لاعتماد هذا اليوم الأخير، مع إغفال الأول، رمزية ودلالة واضحة، من حيث أنه يشير إلى طبيعة الصراع الفكرية والسياسية ، فالأول، 15 آذار، هو حركة مدنية سلمية قامت بها تجمعات «مدينية» ذات توجه ليبرالي، فيما الثاني، 18 آذار، تمرد مسلح كان ذي طابع «ريفي»، والإختيار هنا يشير هنا بوضوح إلى إن فعل إسقاط النظام ليس كافيا للخلاص، بل يجب إعادة بناء سوريا على أسس إسلامية محافظة، تتخذ من الهوية الإسلامية مرجعية أولى لها انتصارا لأبناء «الريف» الذي عانى الإضطهاد بنوعيه: السياسي والإقتصادي.
لاقى المرسوم، شأنه شأن أي مرسوم أو قرار صادر عن السلطة، انتقادات واسعة في صفوف السوريين ونشطائهم ومنابرهم، وفي منشور له أبدى «المرصد السوري لحقوق الإنسان» تعجبه من «قرار إلغاء عطلتي 6 أيار و 6 تشرين»، وأضاف «كأن الذاكرة الوطنية تمحى بقرار فوقي، أو مزاج سياسي»، وتساءل المرصد «كيف يربط شهداء 6 أيار، الذين أعدمهم جمال باشا السفاح بالنظام السابق؟ وما علاقة شهداء تشرين، الذين قاتلوا على الجبهات دفاعا عن الأرض السورية بأي سلطة حكمت بعدهم؟»، أما محمد حبش، الداعية الإسلامي المعتدل، فكتب على صفحته» أشعر بالحزن من تجاهل الشعب الكردي في وقت نحن أحوج فيه ما نكون للوحدة و المحبة «وأضاف حبش» أطلقت الجامعة العربية عام 1955 يوم 21 آذار عيدا للأم العربية، وقد تجاهلت سوريا ذلك العيد حتى العام 1988 الذي شهد احتفالات عارمة للكرد بعيد( النوروز) الذي يصادف تاريخه يوم عيد الأم، فقررت الحكومة السورية ضرب عصفوران بحجر، وكان أن جعلت من عيد الأم عيدا رسميا للدولة، وكتب حساب باسم صلاح المضري «كيف سأحتفل بنوروزي يوم 21 آذار من كل عام، مع تقديري للأمهات، سأستمر في إيقاد شعلة الآباء والأجداد، وأخرج إلى الطبيعة مزهوا بنصر ( كاوا) على الظالم المتجبر، غير آبه بالسلاطين وتاريخ أعيادهم»، أما وليد الدرويش، وهو عضو برلمان سابق وابن مدينة القنيطرة فكتب منشورا بعنوان «خطورة حضارية نحو النسيان الجماعي»، وفي معرض تعليقه على إلغاء عطلة حرب تشرين قال «آه يا تشرين… مين لسا بيتذكر ؟ ما عاد في حدود تنرسم، بس في حدود بتنمسح».
تلعب «الذاكرة الجمعية» للشعوب دورا كبيرا في الحفاظ على هويتها، وبوصلة من شأنها الإشارة إلى المسارات الصحيحة وتمييزها عن الخاطئة، والعمل على توظيفها بشكل صحيح غالبا ما يلعب دور «اللاصق» لمكونات المجتمع إذا ما باعدت بينها الأحداث والمنعطفات، والمؤكد هو أن المحاولة السورية الجديدة الرامية إلى إعادة انتاج ذاكرة جديدة للسوريين لم تكن موفقة في العديد من محطاتها لأسباب عدة من بينها أن بعض هذي الأخيرة جاءت إرضاء لـ«خارج» ما، وبعضها الآخر جاء بصبغة «تناكفية» مع «داخل» له بعض الخصوصية التي لم تجر مراعاتها، إمعانا في تثبيت شعارات كان الظن أن الأحداث قد تجاوزتها.